عدوان بوشوشة على مزاب
عدوان بوشوشة على مزاب
في الرابع سبتمبر من عام 1871 مساء وبمدخل واحة آت إزجن من الناحية الجنوبية وصل المدعو بوشوشة(1) بجيشه وخيّم هناك استعدادا للهجوم على مزاب ، وقد قدم من ورجلان –التي سقطت بين يديه منذ فترة قصيرة - منتشيا بانتصارات حققها فـــــي مناطق عدة ، فزحف إلى مزاب على رأس 600 مقاتلا من مهاري لمخادمة و شعانبة بروبة (2) و بعض من قبائل الصحراء ، و قد أقام ثلاثة أيام بمتليلي أين جمع مبلــــــغ 2000 فرنك وتدعم جيشه بمحاربين إضافيين – حيث وضع كل فرع من أعراش هـذه المدينة من 06 إلى 10 فرسان تحت تصرفه كتعبير عن الولاء له ، وكانت أخباره قـد سبقت وصوله إلى مزاب حيث سارع ممثلو القصور الخمسة إلى عقد اجتماع طارئ بمصلى باعبد الرحمان الكرثي وقرروا دون تردد مواجهة المعتدين بالقوة أينما حلوا دون أي تفاوض معهم ، فأعلنت التعبئة العامة و نودي في الناس بالجهاد المقدس للدفاع عن عرضهم و أرضهم و لينتقموا أيضا لإخوانهم الذين قتلوا في ورجلان على يد هذا المعتدي و نهبت و أحرقت جميع محلاتهم هناك بأمر منه(3) ، فتدفق الناس من كــــــل قصر حاملين أسلحتهم و عصيهم وكل ما يمكن التصدي به للعدوان يتقدمهم العزابــــــة و العوام متجهين إلى مكان مرتفع بنواحي آت إزجن يسمى دبدابة اتخذوه كنقطة تـــلاق و انطلاق لمواجهة العدو ، وكان بشوشة قد أرسل إليهم اثنين من فرسانه يطالبهـــــــــم بالاستسلام ودفع فدية ضخمة و تسليمه عددا من الرهائن كضمان ودليل علــــــــــــى خضوعهم لسلطته ، فكان ردهم حازما و حاسما مشيرين إلى أسلحتهم وقوتهم ، فـــأدرك عندها بوشوشة أن المزابيين مصرون على مواجهته و مستعدون لخوض حرب حقيقيـــة معه قد تكلفه غاليا ، فاضطر إلى التراجع و الانسحاب و اكتفى بإمهالهم شهر و ثلاثــــة أيام للاستسلام ، وقفل راجعا من حيث أتى ، وكأي عصابة و أو قطاع طرق لم يشـأ أن يعود فارغ اليدين فيظهر في مظهر المهزوم أمام أتباعه بورجلان، فقام بتقسيم جيشه إلى ثلاثة مجموعات ، مجموعة أولى مكونة من 270 نفرا و 15 فارسا أرسلها إلى منطقة تاجرونة حيث سطوا على 7 قطعان من أغنام سكانها و مجموعة ثانية من 300 مقاتل وجهها إلى ناحية شمال الشبكة أين استولوا فيها على 10 قطعان من أغنام تعود ملكيتهـــا لمزابيين من آت إبرقان و تغردايت بينما بقي هو مع 150 من محاربيه منتظرا بمنطقــــة زلفانة إلى أن التحقت به المجموعتان بعد إتمام عمليتيهما ليعود بعدها إلى ورجلان.
خطّ أهالي تغردايت رسالة إلى ممثليهم في مدن التل يعلمونهم فيها بتفاصيل محاولة الهجوم الفاشلة لبشوشة و جيشه مباشرة بعد الحادثة وطلبوا منهم تلاوة مضمونها على كافة اخوانهم المتواجدين هناك و تم تداولها على نطاق واسع ، وقد وقعت نسخة منها بين أيدي السلطات الفرنسية مما سمح بنشر مقتطفات منها في مصدر فرنسي قديم ، وحسب رأيي إن لم أخطئ هي أقدم وثيقــــــة تتناول هذا الموضوع وهذا بعض ما ورد فيها من فقرات حرفيا تليها محاولة لترجمتها إلى العربية 4:
« … Un cavalier des Beni-Isguène, nommé Youcef-Serar, vint ensuite nous annoncer que le prétendu chérif, le perturbateur, le pervers, était descendu dans les palmiers des Beni-lsguène. Les gens de Ghardaïa étaient déjà, réunis, car les dispositions du perturbateur démontraient qu’il venait réellement pour attaquer ; il y eut à la koubha de Ba-Abderrahmane une réunion générale des gens de tous les ksours du Mzab ; ils ‘y prirent l’engagement d’agir d’un commun accord pour le combattre, n’importe où il camperait.
« Dès que le cavalier Youcef eut annoncé la présence du susdit dans les palmiers des Beni-Isguène, les gens de Ghardaïa firent entendre les sons de leur musique guerrière, tambours et musettes, et, avec leurs drapeaux, ils se rendirent aux environs de Edebdaba.
Le drapeau des Azzaba était blanc, celui des laïques de Ghardaïa était rouge, et celui des Medabih (Arabes sunnites) était vert ; c’est vous dire qu’il y avait trois drapeaux. On choisit ensuite les gens qui, les premiers, marcheraient contre le perturbateur, et, pour cela, six cents hommes d’entre les plus vaillants furent désignés. A leur tête marchaient les Azzaba .
« Les Azzaba récitaient à haute voix des hymnes sacrés et les prières de sanctification ; ils appelaient sur les prophètes les bénédictions divines, car il n’y a de force et de puissance qu’en Dieu ; il est le Très-Haut, il est le Suprême. Et les clercs disaient à tout le monde : « Sachez que vous allez combattre licitement, pour protéger vos femmes, vos enfants, vos biens, vos personnes, et cela au nom de la religion. » …. O adorateurs de Dieu ! C’est ici le plus noble des djehad, Dieu vous aidera à vaincre !
« Après avoir laissé des gardes aux portes de la ville et sur les remparts notre colonne se mit en marche, les Azzaba en tête avec leur drapeau blanc, et ensuite tous les combattants, et, derrière, la musique.
« Lorsque nous arrivâmes à hauteur d’Edebdaba des Beni-Isguène, nous fûmes rejoints par les contingents de Melika, Bounoura, El-Aseuf, Beni-lsguène, chacun ayant
son drapeau, etc. »
"...... أقبل فارس من آت إزجن يدعى يوسف سرار ليعلن لنا خبر نزول المتمرد المدعو الشريف (بشوشة) إلى أجنة آت إزجن ، و سكان تغردايت كانوا قد تجمعوا - متأهبين قبل أن يصلهم الخبر – لأن كل التحركات السابقة لهذا المغامر توحي بأنه جاء وهو عازم على شن هجوم حقيقي ، و سبق أن عقد اجتماع عام بقبة (مصلى) باعبد الرحمان الكرثي لأهالي كافة قصور مزاب أخذوا فيه على أنفسهم عهدا في اتفاق جماعي أن يحاربوه في أي مكان يحل فيه. و ما ان أداع الفارس يوسف نبأ تواجد هذا العدو بواحة آت إزجن حتى بدأت تسمع بتغردايت طبول الحرب تقرع و تعزف المزامير و تتعالى أصوات رجالها بالأهازيج و الأناشيد الحماسية رافعين أعلامهم يهمون للتوجه إلى ناحية الدبدابة ، العزابة برايتهم البيضاء و العوام برايتهم الحمراء و المذابيح برايتهم الخضراء - أي أنه كانت هناك ثلاثة رايات. بعد ذلك تم اختيار600 رجل الأكثر بسالة ليكونوا في الصفوف الأمامية عند مواجهة العدو يتقدمهم العزابة الذين كانوا يرددون بصوت عالي الأذكار و الأدعية و الصلاة على الأنبياء ( " لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " ، "الله أكبر"، ".... ) ، و خطبوا أمام الجميع بما يلي- : " إعلموا بأنكم ذاهبون لقتال مشروع تدافعون فيه عن نسائكم و أطفالكم و ممتلكاتكم و أهاليكم بإسم الدين ..... يا عباد الله هنا أشرف الجهاد و الله بعونه سينصركم .
بعد وضع حراسة على أبواب القصر و فوق أسوارها شرعت وحداتنا في السير و العزابة على رأس المحاربين برايتهم البيضاء .وعند وصولنا إلى مرتفع دبدابة بآت إزجن انضم إلينا مقاتلون من آت مليشت و آت بنور و تجنينت و آت إزجن كل فرقة برايتها الخاصة بها ....
عبر الأستاذ أبو اسحاق(4)
في النص نلمس قيما اجتماعية هي سر النجاح في دحر المغامرين الملاعين، فمنها «الوحدة» فالقصور جميعا مشغولة بالأمر، ومستعدة له أتم الاستعداد، ومنها «الإعلام» فهناك طبول تقرع في القصر الواحد، ومزامير تعزف وأهازيج تنشد، وهي وسيلة للفت نظر الجميع ليسأل عما يحدث ويتحمس أيضا! ومنها «النظام» فهناك رايات تنظم التحرك، ليعتمد كل فريق على نفسه في التنظيم، ويعرف دوره مع الآخرين، ومنها «القدوة» فالعزابة الذين هم في القيادة والتوجيه أيام السلم هم في قيادتهم وتوجيههم أيام الحرب أيضا! ومنها «الكفاءة» فالحرب لها رجالها، ولابد أن يتقدموا الصفوف، أخذا بأسباب النصر! ومنها «اليقظة» الدائمة فخروج المتطوعين للقتال، لا يعني ترك القصور وأسوارها وأبراجها دون حراسة، ومنها «الاستعانة بالله» بالأذكار والأدعية، فمهما كان التجهيز والأخذ بالأسباب، فالله وحده يعلم بقوة العدو، وهو وحده من يسد نقص الفئة المؤمنة المستضعفة!4
مقتطفات من هذه الوثيقة التي تتضمن الرد
وثيقة أخرى تعود إلى ما قبل سنة 1902 من بين ما تضمنته باختصار رد المزابيين على رسالة بشوشة التي طالبهم فيها بالخضوع و الاستسلام و جاء فيها مايلي : " لن نعترف بسلطتك و لن نستسلم لك أبدا وإذا لم يكن معك ما يكفي من الذخيرة الحربية فإننا على أستعداد لإمدادك بالبارود و الرصاص بالكميات التي تكفيك " وقْع هذه الكلمات على بشوشة جعلته يعود أدراجه وينسحب خائفا دون أن ينطق بكلمة ".
يُذكر أن بشوشة وهو في طريقه لمهاجمة مزاب التقى بمنطقة النومرات بالمدعو سي الزبير (5) - الذي كان على تواصل مع المستعمر - وعقد معه اتفاق تحالف هو أقرب لصفقة منه لشيء آخر، حيث زوجه سي الزوبير احدى قريباته التي هي بنت احد زعماء أولاد سيد الشيخ - من نسب الاشراف كما يزعمون - غصبا عنها و دون رضاها بالمقابل عيّن بشوشة سي الزبير آغا على ورجلان التي هي تحت سيطرته و تمت مراسيم الزواج في حينها بمتليلي ، كان بشوشة يرمي من وراء هذا الاتفاق كسب ود اتباع سي الزوبير بورجلان وهم كثيرون و محاولة استمالة أولاد سيد الشيخ الذين لهم نفوذ يمتد الى إن صالح حتى يتمكن من اللجوء اليها لانه يعلم جيدا ان الفرنسيين سيسيطرون عما قريب على ورجلان و على كل المناطق المجاورة لها وهو ما حدث فعلا بعد ثلاثة أشهر فقط (6)
صورة ناذرة للمدعو بشوشة
بعد خيبته و فشله بمزاب عاد بشوشة مصطحبا معه سي الزوبير الى ورجلان بعد ان التحق به رجاله الذين استولوا على قطعان الماشية بتاجرونة و شمال مزاب ، و أقيم للآغا المعين ( سي الزوبير) عند وصوله استقبال حافل من قِبل السكان ، ومن بين الذين جاؤوا لاستقبال بشوشة الشريف محمد بن عبد الله (7) و الناصر بن شهرة .
و دون أن ندخل في تفاصيل تحركات بوشوشة بعد ذلك و التي تميزت بالكر و الفر و الاغارات و التحالفات و الانشقاقات لانها - ليست موضوعنا ولا علاقة لها بمزاب - نكتفي بذكر نهاية مغامرته التي كانت في 31 مارس 1874 على يد أحد حلفاء الفرنسيين و بأمر منهم وهو السعيد بن دريس (8) بمنطقة الميلوك جنوب إن صالح ، إذ ألقي عليه القبض و هو جريح بعد انهزامه في تلك المعركة ، - يُشار هنا الى أن غالبية أتباعه من الشعانبة انقلبوا عليه و تخلوا عنه بمجرد ان وضعت السلطات الفرنسية يدها على ورجلان - أُقتيد بشوشة بعد ذلك الى ورجلان ثم الى قسنطينة ليمثل أمام مجلس الحرب هناك في محاكمة سنحاول في المنشور القادم سرد بعض مجرياتها ...
فقرات من مضمون الرسالة
محاكمة بوشوشة:
في بداية الأمر تمت إحالة بوشوشة على مجلس الحرب بالجزائر العاصمة ليمْثل أمامه لأن وارجلان أُلحقت حديثا بقسمها العسكري غير أنه في آخر المطاف تم تحويله إلى قسنطينة على اعتبار أن الوقائع التي قام بها بتقرت قد تم النظر فيها سابقا من طرف مجلس حرب هذه المدينة فأوكل له مهمة إتمام محاكمته في جميع القضايا المتصلة به. وقد أنكر بوشوشة مسؤوليته عن جميع الأعمال المنسوبة إليه أمام مجلس المحاكمة و صرح أنه في جميع الحالات أو الظروف التي مرّ بها كان مجرد سلوقي – كلب الصيادة - الذي أطلقه الصياد على الطريدة :
« déclara qu’en toutes circonstances pouvant nous intéresser il n’avait été que le sloughi lancé sur le gibier par le chasseur ».
و أوضـــح أيضا أنه إذا كان قد قبل بهذا الـــــدور فلأنه صدَّق بما قيل له أن فرنسا قد انتهت و أنها لا شيء ، و تداول على عارضة محكمة مجلس الحرب الكثير من الشهود من ممثلي الأهالي من مختلف المدن و الجهات التي طالتها يد بشوشة و كانت كل شهاداتهم ضده و من بين الشهود ممثل عن وادي مزاب يدعى حمو بودعاس ، و قد طعن بوشوشة في أقوال جميع الشهود وقال بأنهم مخادعون و يسعون فقط لمصالحهم الشخصية و لم يكونوا أبدا أوفياء و استثنى منهم ممثل مزاب وقال أنه ليس لديه ما يقوله ضد شهادة هذا الشخص أو ضد من يمثلهم .
و أدرك بوشوشة بعد ذلك أن أيا من أقواله أو حججه لن تُقبل و لن يعتدّ بها وهو ما دفعه إلى إظهار آثار الجروح البليغة التي شوهت رقبته و جسمه وقال " أنا لا أخشى الموت و أعلم أنكم ستدينونني و أنتم محقون في ذلك فلقد تعرضت للسرقة و الخيانة و محاولة الإغتيال و النفي من أولئك الذين خدمتهم - ويقصد هنا أنه خُدع من طرف الذين تحالف معهم - ولم يبقى لي إلا أن أموت و أنا مستعد لذلك و ليس لي شيء آخر أقوله لكم فارحموني وعجلوا بإعدامي .
دامت مدة محاكمته 15 يوما و بقي ثلاثة أشهر في السجن قبل أن ينفذ فيه حكم الإعدام يوم 29 جوان 1875 على الساعة الخامسة صباحا في معسكر بضواحي قسنطينة يسمى:
"Camp des oliviers"
معلومة إضافية :
يبدو أن السلطات الفرنسية قد قدمت بعض التعويضات المالية للأشخاص الذين سرقت ماشيتهم من طرف بشوشة و أتباعه بمزاب ، حسب ما جاء في مضمون رسالة قديمة صدرت عن رئيس مكتب الأهالي للأغواط النقيب ديرون بتاريخ 16 أفريل 1873 أين طلب فيها من بعض الأشخاص المذكورين بالأسماء المجيء إلى الأغواط لاستلام المبالغ المالية أو يوكلوا من ينوب عنهم ؛ من المحتمل جدا أن تكون هذه التعويضات مندرجة ضمن بنود معاهدة الحماية لسنة 1853 .
------------------------------------------------------------------------------------
الهوامش
(1) محمد بن تومي بن ابراهيم المدعو بوشوشة ولد في الغيشة بجبل عمور حكم عليه في عدة قضايا بتهم السرقة والسطو أولها سنة 1862.
(2) شعانبة بروبة هم الذين استوطنوا بورجلان
(3) أحداث مأساوية وقعت بورجلان بعد سقوطها بيد بوشوشه في مارس 1871 قتل و نهب و حرق في حق المزابيين
(4) Sala AbouIsha
(5) سي الزوبير ولد سي بوبكر من أولاد سيد الشيخ ( شقيق الخليفة سي حمزة) آغا ورجلان من 1854 الى غاية نهاية 1861 تمت تنحيته لاسباب صحية ليعيده بشوشة لمنصبه توفي سنة 1879 بڨورارة
(6) تمكن الفرنسيون من السيطرة على ورجلان في 2 يناير 1872 بقيادة الجينرال دولاكروا
(7) الشريف محمد بن عبد الله الذي سانده المزابيون في معركته ضد الفرنسيين بالاغواط و أنقذوا حياته و هربوه الى ورجلان
(8)السعيد بن دريس شقيق آغا ورجلان الحاج محمد بن دريس الذي عينته فرنسا
Tags: الهوية, تأريخ, حضارة, الإباضية, قيم, سياسة, إجتماع, سياحة