معاهدة الحماية

معاهدة الحماية

c 71853 Traité de protectorat

في الـتاسع و العشرين من شهر أفريل من عام 1853 وقّع بصفة رسمية ممثلو قرى مزاب بمدينة الأغواط على معاهدة الحماية مع السلطة الفرنسية ممثلة في القائــــــد العسكري للأغواط Le Commandant François Charles Du BARAIL (1)

بتكليف و تفويض من الحاكم العام للجزائر Jacques Louis RANDON بعــــــــد تجاذبات و مفاوضات على إثر الرسالة التي بعثها هذا الأخير بتاريخ 24 جانفي من نفس السنة إلى المزابيين أين حدد لهم فيها شروط الإتفاقية وأمهلهم شهرين للإستجابة لها أو الإستسلام و في ظل حصار إقتصادي فرضته فرنسا على مزاب ؛ وتقضي هذه المعاهدة على أن يدفع سكان مزاب ضريبة سنوية (لزمة ) قدرت في البداية بـ 000 45 فرنك (2) للسلطة الفرنسية و أن لا يفتحوا أسواقهم و مدنهم لأعدائها نظير أن يبقى إقليم مزاب كيانا مستقلا عن الإدارة الفرنسية و لا تتدخل في شؤونـه الداخلية إلا عندما يتعلق الأمر بالأمن العام أو بمصالح مواطني فرنسا أو القبائل الخاضعة و المتحالفة معها ، كما تعهدت فرنسا بحماية قوافل المزابيين أثناء تنقلها أو الإقامة في مدن التل التي هي تحت سيطرتها.

c 7Le Commandant DU BARAIL

و كان المزابيون قد إنقسموا بين مؤيد و معارض لعقد هذا الإتفاق فالهيئات الدينية الممثلة في حلقات العزابة و الطلبة وعلى رأسهم الشيخ أطفيش عارضوا بشدة كل تعامل أو علاقة من هذا النوع مع قوات الإحتلال مهما كلف الوضع بل دعوا إلى إعلان الجهاد ضدها إن تطلب الأمر حتى و إن أدى ذلك إلى إزالة مزاب من الوجود ، في حين رأت هيئات العوام و ممثلو التجار أن لا سبيل لمواجهة فرنسا بالقوة لأنه يستحيل ذلك و الإتفاقية هي فرصة لضمان إستقلالية مزاب عن المستعمر وفرصة أيضا لتأمين تنقلاتهم و حفظ مصالحهم التجارية في مدن التل ، وأن اللزمة التي كانوا يدفعونها سابقا لدايات الدولة العثمانية (3) سيسددونها لفرنسا بنفس القيمة تقريبا و لن يضطروا بعدها بدفع أموال لقبائل الرحل مقابل مرور قوافلهم التجارية على المناطق التي تستوطنها.

 

و قد رجحت كفة المؤيدين للإتفاقية – رغم تمسك الطرف المعارض بموقفه - فعينوا عشرة (10) مندوبين يمثلون القصور السبع للتوجه إلى الأغواط خلال إجتماع لهم بمصلى أمي سعيد أياما قبل توقيع الإتفاق وهم السادة بابهون من بريان ، باعيسى بن بهون و داوود بن باحمد من تغردايت ، بنوح بن الحاج أحمد من آت مليشت ، بكير بن علي من آت بنور ،الحاج محمد زرقون و الحاج عمر بن داوود من آت إزجن ، بكير بن سليمان من تجنينت ، بكير بن كاسي و عيسى ولد الزيت من القرارة (4) . 

c 7الصورة لمدينة الأغواط في الحي الذي تتمركز فيها مراكز و مقرات السلطة العسكرية الفرنسية سنة 1860 

ظروف وعوامل عدة في تلك الفترة ربما ساهمت في دفع المزابيين لتوقيع معاهــــــــدة الحماية مع السلطة الفرنسية نلخص أهمها في النقاط التالية :

- إستحالة مواجهة المزابيين للمد و الزحف الفرنسي بجيوشه وترسانته الضخمة و أي مقاومة بالقوة آنذاك كانت ستؤدي إلى نتائج وخيمة.

- علاقات مزاب بالقبائل و الأعراش المحيطة بها لم تكن في ودّ دائما رغم ما يربطهم من علاقات تجارية و تبادل للمنافع إلا ان روح العداء كثيرا ماكان حاضراعندهذه القبائل.

- حالة اللاأمن و الفوضى و الإغارات كانت هي السائدة آنذاك في المنطقة و المناطــــق المجاورة ، حتى أن بعض المجموعات و القبائل امتهنت قطع الطرق و الارتزاق فــــي الحروب و الصراعات ، إضافة إلى تحالـــف و انضواء البعض منها تحت القـــــــــوة الإستعمارية.

- غياب أي مقومات لدولة مركزية تفرض النظام و القانون خاصة وأن هذه الفتــــــــــرة تزامنت مع انهيار الدولة العثمانية و بداية إمتداد الإحتلال خاصة في العمالات و الأقاليم التي كانت تحت سلطة الأتراك .

- حالة الضعف و الوهن التي كانت تعيشها معظم قرى مزاب نتيجة الفتن و الصراعات الداخلية ، و إدارة الإحتلال كانت مدركة ذلك جيدا وقد أشار Le Commandant DU BARAIL نفسه إلى ذلك في مذكراته و كان متحمسا جدا لفكرة احتلال مزاب و ذكر انه طلب عدة مرات من الحاكم العام إذنا بإحتجاز قوافل المزابيين التي كانت تمــــر على الأغواط لإرغامهم على الإستسلام (5).

- ابتزاز السلطة الفرنسية للمزابيين و تهديدهم بشكل مباشرة بإستهداف موردهــــــــــم الإقتصادي الأول وهو تجارتهم في مدن التل و قد ظهر ذلك جليا في الخطاب الذي وجهه الحاكم العام RANDON للمزابيين -هذا نصه الحرفي -:

 

c 7الصورة للحاكم العام Jacques Louis RANDON 

Songez que de votre soumission dépend votre commerce et la fortune de vos enfants que vous envoyez dans nos villes. Nous n’avons pas à nous en plaindre, mais ils sont vos frères, solidaires de vos actes et le nombre des européens et des arabes qui nous demandent à prendre leurs places et leurs industries , parmi nous est grand. Si vous restez sourds à ces conditions, ne vous en prenez qu’à vous des malheurs qui s’en suivront(6)

الترجمة معاني النص كما يلي :

" تذكروا أن مستقبل تجارتكم و ثروات أبنائكم الذين ترسلونهم إلى مدننا مرتبطــــــة بخضوعكم لنا ، ليس لدينا شكوى أو اعتراض عليهم ، و لكنهم إخوانكم و هم داعمين لتصرفاتكم ، و هناك أعداد كبيرة من الأوربيين و العرب بيننا يطلبون منا أن يأخــــذوا مكانهم و يستحوذوا على نشاطهم ، فإذا بقيتم غير مبالين و لم تستجيبوا لشروطــــــنا فستكونون أنتم المتضررون و ستتحملون التبعات السيئة لذلك" .

بالنظر إلى الظروف و العوامل التي احاطت بالمعاهدة زمانيا و مكانيا أو جغرافيــــــــــا - المذكورة في المنشور السابق- فإنه يمكن إعتباره إقدام المزابيين على توقيع معاهــدة الحماية مع الفرنسيين قرار حكيما و ذكيا جنّب مزاب وضعا أسوء و ضررا أكبــــرو خرجوا من تلك المحنة العصيبة بأقل الخسائر و مكنهم من الحفاظ على مصالحهــــــــــم و صون خصوصياتهم و استقلاليتهم – ولو أن هذه الإستقلالية قد صودر جزء كبيــــر منها بعد الإلحاق سنة 1882.

c 7الصورة لـ DU BARAIL

بالمقابل فإن الموقف الرافض للإتفاقية الذي أبدته هيئات العزابة و الطلبة كان ضروريا و مطلوبا لمرجعية دينية لها هيبتها و مصداقيتها في المجتمع وكان موقفا منسجمــــــا تماما مع مبادئها مكنها من أن تضع لنفسها مسافة كبيرة و فاصلة مع المستعمـــــــــــر و تكون في منأى عن أي استغلال من طرف هذا الأخير أو أتباعه طوال فترة الإحتـلال، عكس شيوخ بعض الزوايا والجمعيات الدينية في مناطق أخرى التي استغلها الفرنسيـون للترويج لأفكارها الإستعمارية بغطاء ديني ، فرغم مكر الإدارة الفرنسية إلا أنها لــــم تتجرأ إلى التدخل بشكل م-باشر في شؤون و مهام هيئة العزابة وكانت تتحاشى غالبـــــا الصدام معها و تحسب لها ألف حساب.- إذا استثنينا بعض القرارات التي اتخذتهــــــــا الإدارة الفرنسية و التي تعد تدخلا في شؤون العزابة و معاكسة لإرادتها مثل قضيــــــة تعيين قضاة المحاكم الشرعية أو فتح دور للبغاء - و كانت مدركة منذ البداية أن هــــذه الهيئات كانت رافضة لها و تكن لها عداوة شديدة (5).

إقدام المزابيين على إبرام هذه المعاهدة كانت فكرة ملهمة لقبائل و مدن أخرى بالجنوب ، إذ حاول البعض منها القيام بنفس الخطوة لكنها فشلت ، فقد حاول وجهاء و أعيان تقرت أن يحذوا حذو مزاب و طالبوا من فرنسا قبل سقوط مدينتهم في أيديها أواخر سنة 1853 ( على الأرجح) أن يحظوا بإتفاقية مماثلة لكن طلبهم قوبل بالرفــــــــــــض (7)، كما تنقل وفد مفوض من سكان إن صالح إلى العاصمة سنة 1857 للتفـــــــــــاوض مع السلطات الفرنسية حول معاهدة مشابهة لتلك التي أبرمت مع المزابيين مقابل أن يدفعـــوا ضريبة سنوية و يعترفوا بالسيادة الفرنسية الكاملة ، لكن مسعاهم لم يفضي إلى أي نتيجة و عادوا إلى ديارهم خائبين. (8)

ترى ماهي الأسباب التي جعلت فرنسا تقبل بإبرام معاهدة حماية مع المزابيين و ترفضها مع مدن اخرى بالجنوب ؟

هل ذلك راجع إلى وزنهم الإقتصادي و نشاطهم الدؤوب و انتشارهم الواسع في مختلف المناطق و المدن ؟ أم هو عائد إلى طبيعة مجتمعهم و خصوصياته ؟ أو هو راجع إلى ذكائهم و قدرتهم على التفاوض و استباق الأحداث ؟ أم إلي ضعفهم و انعزالهم ؟

c 7

شخصية بارزة من قصر آت إزجن تحدثت إحدى المصادر الفرنسية القديمة (القريبــــــة زمنيا من الحدث) عن دورها المحوري في التوصل إلى إبرام المعاهدة بين المزابييـــــن و السلطة الفرنسية ووصفته بذي الشخصية المؤثرة جدا و بالرجل الديبلوماسي المحنـك و الذكي الذي لا تغادر الإبتسامة الديبلوماسية محياه ، و تحدثت أيضا عن نفوذه و ثروتــه الكبيرة و علاقاته التي استغلها في التواصل مع الفرنسيين و التوسط في عملية التفاوض بين ممثلي قرى مزاب و الحكام الفرنسيين ؛ و يتعلق الأمر بـ عدون بن سعيد – هكـــــذا ورد إسمه - حين دخلت القوات الإستعمارية الجزائر العاصمة سنة 1830 كان عدون بن سعيد يعمل عند أحد أقاربه بنفس المدينة ، تمكّن بعد فترة وجيزة من نسج علاقات مع الفرنسيين ،عيّن بعد سنوات قليلة أمينا للمزابيين بمدينة البليدة. كان أول من تنبه إلى الخطر الذي يحدق بمزاب بعد توغل القوات الفرنسية بالأقاليـــــــــم الجنوبية ، فبمجرد وصول هذه الاخيرة إلى مدينة الأغواط سنة 1852 – حسب نفــــــس المصدر - سارع إلى مزاب و اجتمع في بلدته بمشائخها و أعيانها و حذرهم من الخطـــر الداهم الذي يتهدد استقلال و حرية وطنهم ، و بيّن لهم بحكم معرفته الجيدة بالفرنسيين أنه عاجلا أم آجلا سيواصلون طريقهم يوما ما إلى مزاب ، و أقنعهم بضرورة إستبـــــــــــاق الأحداث و الإستعداد لذلك و أكد لهم أن مواجهتهم بالقوة أمر مستحيل و اقتـــــــــرح أن يحاولوا التفاوض معهم من أجل دفع غرامة مقابل الحفاظ على استقلالهم الذاتي و عوائـد أسلافهم مثلما كانوا يفعلون مع الأتراك ، كلف بعد أن وقع إجماع بين القصور السبعــة بالتواصل و التفاوض مع السلطة الفرنسية .

(هذه الشخصية و دورها في الإتفاقية يستحقان البحث و الدراسة العميقة من جميـــــــع الجوانب من طرف المؤرخين ) .

في نهاية هذا الموضوع و إثراء لمضمونه لابأس أن نذكر بالإتفاقيات و المعاهدات التي أبرمتها فرنسا مع بعض القبائل و الزعماء أثناء فترة احتلالها للجزائر:

- إتفاقية بين الجنيرال DESMICHELS و الأمير عبد القادر موقعة بتاريـــــــخ 26 فيفري 1834 .

- إتفاقية بين الجنيرال TREZEL و بعض القبائل الوهرانية - ناحية وهران- موقعــة بتاريخ 16 جوان 1835.

- معاهدة تافنة بين الجنيرال BUGEAUD و الأمير عبد القادر المبرمة بتاريــخ 30 ماي 1837.

- معاهدة الحماية بين الحاكم العام للجزائر و جماعة مزاب مبرمة بتاريخ 29 أفريـــل 1853.

- المعاهدة التجارية بين الحاكم العام للجزائر و زعماء التوارق الموقعة بتاريــخ 28 نوفمبر 1862.

-------------

(1) – مصادر فرنسية أشارت إلى أنها في بداية الأمر كانت عبارة عن إتفاقية (Convention ) ثم تحولت إلى معاهدة (Traité ).

(2) - قيمة الضريبة شهدت زيادات مطردة مع مرور الأعوام

(3) – 12 عبدا و 12 أمة هو قيمة الخراج الذي كان المزابيون يدفعونه سنويا للدولة العثمانية .

(4) – وردت هذه الأسماء كما هي في الرسالة التي بعث بها Le Commandant DU BARAIL إلى مزاب في شكل تقرير و تذكير بمضمون المعاهدة بتاريخ 22 أفريل 1853 بعد وصول الوفد إلى الأغواط و دونت في أحد المصادر القديمة

(5) Mes Souvenirs tom. II - Général DU BARAIL Paris 1898

(6) – الفقرة الأخيرة من نص الرسالة التي بعثها الحاكم العام بتاريخ 24 جانفي

1853 للمزابيين.

(7)- العديد من المصادر الفرنسية القديمة أشارت الى الحساسية الشديدة و العداوة التــي

تكنها الهيئات الدينية للمستعمر

(8)- مزاب وقضايا الوطن و الأمة / الدكتور الحاج موسى بن عومر 2015

-(7) L'Afrique occidentale : Algérie , M'zab , Tidikelt / Paul SOLEILLET - 1877

 

المصدر : منشورات Bakir Bennacer    01     02     03     04     

Tags: تأريخ, الجزائر, سياسة