من تضحيات خدمة البئر

من تضحيات خدمة البئر

Icon 08

... وما دمنا نتكلم عن حفر الآبار فلا بأس بذكر نوع من الأجور كان يُعطى للعمال الذي يحفرون لاسيما إذا كانوا يحفرون في الصخور، وذلك أنهم كانوا يحاسبون الأجير على حسب ما يقتلع من الحجر فكلما ملأ وعاء بالحجر إلا وملئوه له بالقمح أو الشعير وهذا على حسب الأوقات والظروف، وأما من كان يُصفي البئر فهو بالطبع يعمل طول يومه في الماء فإنه علاوة على أجره يعطون له رطل سمن يشربه قبل النزول في الماء لئلا تتضرر صحته بطول الوقوف في وسط الماء، ويجعلون على فم البئر أقواهم وأعقلهم لأن إمساك الغرارة -وهي ما تحمل الردم من البئر- تحتاج إلى المهارة والقوة والتعقل وإلا فإن أبسط خطأ قد يؤدي بحياة الذين في أسفل البئر ويعلم الله وحده كم من أناس قضى الموت عليهم، كما وقع في البئر الموجودة في غابة "عين أَوْلَوَالْ" في العطف وهي ملك لآل بكلي" قد عمل فيها أخوان، من المخادمة الذين جاءوا من وارجلان، كان أحد الأخوان في قاع البئر وكان أخوه يمسك الغِرارة، وذات يوم كان بعض العمال يجرون الغِرارة وهو في فم البئر ليمسكها وقبل أن يمسكها نادى بأعلى صوته "أَيَّاوْ هْنَا" وهو النداء المعروف فلما توقف الذين كانوا يجرون الحبل الذي يحمل هذه الغِرارة غلبته فرجعت إلى البئر وسقطت على أخيه فمات لحينه، وكم لهذه القصة من النظائر في مختلف القرى ومن يدري لعل صاحب هذه القصة هو الذي اختار أخاه ليقف على باب البئر لثقته فيه، وأذكر أن أحد العمال في سنة 1934م كان يحفر في حاسي "اجْدِيدَه"في غابات "أَوْلَوَالْ" في العطف بجانب المبرد الكهربائي فسقط عليه حجر صغير ربما كان أصغر من بيضة الحمام فمات ليومه، والطبيب العسكري هو الذي قال هذا عندما فحصه وأذن بدفنه.

وكثيرا ما تنهار البئر على من فيها من العمال وهنا يُعلن في البلدة نفير عام حتى ينقذ المنكوبون، وكثيرا ما يكونون على قيد الحياة إذا منَّ الله عليهم فوجدوا متنفسا وهناك حكاية لطيفة وقعت لأحد الأبطال المعروفين بشجاعتهم وإيمانهم بأن لكل أجل كتاب وهو المرحوم "سماوي الحاج اسماعيل بن قاسم" أو "بن كاسي" كما يقولون المتوفي حوالي سنة 1900م، فقد انهارت عليه هو وأصحابه بئر وتنادى المؤمنون، وظلوا يحفرون سائر اليوم حتى انقدوهم أحياء كلهم، لأن الله سبحانه مَنَّ عليهم بحجر مصفح كبير مثل الذي يجعل في باب البئر ويسمى بالمزابية "مَدُونْ"، اسقط مُتكئاً وأمسك الرَّدم فوقه فصاروا يتنفسون تحته حتى أدركتهم النجدة، وبعد أن خرجوا من البئر سالمين، ذهب إلى بيته وإذا بوالدته تقول له: إني لا أقبل بعد اليوم أن تنزل بئرا لقد كدنا نفقدك في حادث الأمس. فقال: يا أماه إن الناس الذين ماتوا على ظهر الأرض أكثر بكثير من الذين ماتوا تحتها، إن الأجل هو الذي يقتل. فوجدت كلامه حقا فسكتت، وقد اختصر طريق الجواب فاقتنعت لحينها.

 ------------------------------------

(01) كتاب رسالة في بعض أعراف وعادات وادي ميزاب، الحاج أيوب إبراهيم بن يحي، ص 44-45

المصدؤ nir-osra.org

Tags: قيم, أخلاق, إجتماع, زراعة, الفلاحة والري