مزايا التاريخ

مزايا التاريخ الوطني:

ان تاريخ أجدادنا هو الذي يؤثر فينا أكثر، فيجب الاعتناء به، والاعتماد عليه في تربيتنافي البيوت والمدارس والمجتمع؛ أما تاريخ من عاشوا في ارض غير أرضك، وكانوا من غيرجنسك، يحملون وراثة غير وراثتك، فقد يوحي إليك هذا بأنك لا تستطيع ما استطاعوا، لأنهم في بيئة طبيعية غير بيئتك، وأورثتهم قوى ومواهب لا تكونها فيك بيئتك، وأنهم من جنس قد يخيل إليك انه أرقى من جنسك، وعلى وراثة كونت فيهم مواهب خاصة قد لا تخلقها فيك وراثتك، فلا يطمح المرء كل الطموح ليصل غاياتهم، ولا يثق بنفسه كل الثقة فيسير في طريقهم، ويتغلب على عقباتهم، فيصل مثل ما وصلوا.

أما تاريخ أجدادك الذين نشأوا أرضك، فهم أبناء بيئتك الطبيعية التي لا تتبدل، وفي دمائك وراثتهم، تلك الوراثة التي انحدرت إليك منهم وهي بفضل أعمالهم لها في جهادهم أقوى مما انحدر إليهم من أجدادهم، ففيك من عوامل القوة والنجاح أكثر مما فيهم، فتثق بنفسك، فتسلك طريقهم فتصل ما وصلوا. لهذا حرم الاستعمار اللاتيني على المغرب ان يعرف تاريخ أجداده، لان تأثرنا بهم يقتضي ان نثور عليه، فندفع ما يكدر حياتنا ويدنسها وينتنها إلى البحر، ونصفي حياتنا وأوطاننا من المرارة والسموم التي ألقاها البحر إلينا! !

ان التاريخ اكبر عامل لبناء الأمم ونهضة الشعوب، وهو من الوسائل الكبرى في التربية الحسنة!

مزايا التاريخ في التربية:

ان التاريخ هو الذي يمكننا في التربية من اختيار البيئة الاجتماعية الصافية الراقية التي نحث بها الآثار التي نريد في التلميذ. أما البيئة الاجتماعية الواقعية فقد لا تطاوعنا، ولا نستطيع ان نجد فيها كل ما نريد، وإذا وجدنا فانه لا بد ان يشوبه ويقترن به كثير من الأشياء السيئة التي لا نريدها، فيتأثر التلميذ بها، فيتصف بصفات تضعف أخلاقه الحسنة، وتقلل نجاحه في الحياة.

أما في التاريخ فإننا نستطيع اختيار العصور الزاهرة، والشخصيات العظيمة، كالرسول، والصحابة، والتابعين، والسلف الصالح من أئمتنا، ورؤساء دولنا، وكبار علمائنا، ونختار من التاريخ كل ما هو حسن فنجعله بيئة للتلميذ ينغمس فيها، ويشغف بها، ويعاشرها بالقراءة اللذيذة، والدرس العميق.

ان التاريخ لهذا أحسن من البيئة الاجتماعية الواقعة التي قد لا نستطيع ان نعزل منها ما لا يرضينا، ولا نجد فيها كل المثل العليا التي نريدها، لذلك نجد الله يضرب لنا الأمثال في القرآن، فيقص علينا قصص الأنبياء، فنرى صبر أيوب، وعفة يوسف، ويقين إبراهيم، ونسك عيسى، وعظمة محمد عليهم السلام، فيعوضنا الله من تلك القصص التي هي تاريخ للأنبياء ما لا نجده في بيئتنا، ويكمل بيئتنا الاجتماعية بذلك التاريخ.

ان مؤلفينا القدماء في الأخلاق كالجاحظ، والغزالي، والجيطالي، وابن مسكويه يكثرون من إيراد القصص في الكتب الأخلاقية، فترانا نعاشر الصالحين في تلك القصص، ونرى جمال الفضيلة في سلوكهم، فنحبهم ويكونون لنا مثلا أعلى، نحذو حذوه، ونسلك طريقه. وترانا نصدر من القصة التي رسمت لنا شخصية نيرة، ونحن نحس في نفوسنا شعاعا من نورها، آثارا منها. انه إذا تكرر ذلك واطرد، فإننا بعد حين نكون على غرار من عاشرنا، ومثل من اختلطنا به في القصص التاريخية وأعجبنا به!

 

مزايا التاريخ التربوية على دروس الأخلاق النظرية:

ان تاريخ أجدى في التربية، وفي غرس الأخلاق الحسنة، والذود عن الأخلاق السيئة من دروس الأخلاق النظرية، ومن الوعظ والإرشاد النظري، لان التاريخ يجسم جمال الفضيلة في سلوك الصالحين، فنكون أكثر إدراكا له، واشد إعجابا، وأقوى تأثرا، ويجسم الرذيلة في سلوك المذنبين فنكون أكثر إدراكا لبشاعتها، واشد نفورا منها. والمرء يتأثر بالمحسوس الواقع الذي يدركه بحواسه، أو يرسمه التاريخ والقصة في خياله، فيتمثله في حقيقته وكأنه يراه، أكثر من تأثره بالمعاني التي تحكم بجمال الفضيلة، وبقبح الرذيلة، فتحثه على الأولى، وتنهاه عن الثانية. ولعل التاريخ الذي يرسم في خيالنا عظماء ومختلف شخصياته يجعلنا أكثر تأثرا مما لو شاهدنا أولئك بعيوننا، لان الخيال قد يزيد في الصورة فتكون أكثر مما هي في الواقع، ويضفي عليها من تهاويله ما يجعلها أحسن مما هي في الحقيقة. والتاريخ يقدم إليك الشيء مشروحا ظاهر الأسرار، بين الخفايا، فتدرك كل حقيقته، فيكون تأثرك بالغا على حسب الإدراك، أما الحواس فقد لا تطلعك إلا على الظواهر، فترى الرجل العظيم فلا تعرف إلا بعض مزاياه أو لا تعرف شيئا، فتظنه من غرض الناس وهو زعيم قومه، وعبقري فذ في أمته.

ان الإدراك الحسي في الإنسان أقوى من الإدراك المعنوي، لذلك كان تأثره بالمحسوس الذي يراه أو يتخيله أكثر من تأثره بالمعاني التي يفهمها ويعيها. والتاريخ هو الذي يرسم في خيالنا ذلك المحسوس الواقع، فلذلك كانت آثاره ابلغ وارسخ من أثار أوعظ والإرشاد النظري الذي لا يقترن بالقصص التاريخية وبالحكايات التي تجسم معانيه.

والتاريخ يقدم إليك الفضيلة مصحوبة بعاقبتها الحسنة، مقرونة بجدواها العظيمة فتكون كالنظرية يؤيدها الدليل الذي يصاحبها، والدعوى تثبتها الحجة القوية التي تكتنفها، فلا يسع المرء إلا الإيمان بها، والخضوع لها، والأخذ بما جاءت به فالصلاح في الصالحين نراه مقرونا بالنجاح الذي حصلوا عليه، والأخلاق العظيمة في العظماء نراها مصحوبة بالزعامة والعبقرية، والمجد تتوجوا به، فنرى الفضيلة فيهم في هالة مشرقة من عاقبتها الحسنة، ونحس بها في حلاوة عائدتها الجميلة، فيكون إيماننا بها اشد، ورغبتنا فيها أقوى، فتثور غريزة السيطرة وكثير من الغرائز فتبعثنا عليها فنتصف بها.

وكذلك الرذيلة، فإنها تبدو في التاريخ متجسمة في سلوك المذنبين، مقرونة بعاقبتها الوخيمة، فنراها في بؤس المذنبين، وفي مشنة المجرمين، وفي جحيم الله أعده للعاصين، فتبدو لنا في أبشع صورها، وفي هو لها ونكرها ونراها عقربا سوداء بادية النكر، شائلة الذنب، تبدوا لنا سمومها، وما تفعله بمن يقرب منها، فتكون نفوسنا أكثر نفورا منها، واشد مقتا لها، وأكثر حردا عليها، فنتنزه منها.

أما المواعظ النظرية، ودروس الأخلاق المعنوية، التي لا يؤيد بالقصص التاريخية، فان المرء لا يزيد بها على ان يلين قلبه بعض اللين، وتدمع عينه بعض الدمع، ثم يقسو قلبه، وترقأ دمعته، وينسى ما سمعه من المعاني، لا تفجر المعاني منه ما يفجره المحسوس الواقع الذي يرسمه التاريخ في خيالنا  من دموع غزيرة تغسل نفوسنا من الأدران، ويظهرها الوجدان المتأجج بالتحسر والندم، فتكون صافية بيضاء ناصعة كالثوب الأبيض الذي غسلناه فأجرينا عليه المكواة الحامية، فأرجعت له جدته، وزالت تجاعيده، ومنعته من التسوس والبلى !

 

التاريخ للاتعاظ والاعتبار:

 

والتاريخ للاتعاظ والاعتبار فيجب ان نقف في هفوات الأجداد،وما أثار الأعاصير عليهم، فنصوره للأحفاد، ونحذرهم منه، ونفتح عيونهم على ما أودى بدولنا القديمة من أمراض، كالانغماس في الحضارة، والركون إلى الراحة، والاتصاف بالأنانية، وبالعصبية القبائلية والمذهبية، وبالحسد الذي هو أم هذه الخبائث كلها، وهو الذي أودى بدولنا الإسلامية، وشقق جماعة المسلمين، فداخلها سوس الاستعمار ورتع فيها ذباب أوروبا، وطمعت فيها كل الحشرات الضعيفة. يجب ان نحذر الأبناء مما وقع فيه الآباء، ونبيد في نفوسهم بالتاريخ الصحيح العقد النفسية الموروثة التي ثبتها الاستعمار في نفوسنا ليمزق شملنا، ونريهم خطأ الأجداد فيما أخطأوا فيه، ونحذرهم من العقبة الوخيمة التي جرتها على أجدادنا تلك الذنوب. ان هذا اكبر فرض يجب على المربى في دروس التاريخ، وإلا يكون مقصرا في التربية، مخلا بواجبه الوطني، لم يأت أهم ما يجب عليه في بناء الجيل الجديد الذي يجب ان يكون خاليا من العقد النفسية الموروثة، ومن العقائد البالية الفاسدة ليكون صفا ليكون صفا مرصوصا، وبنيانا متينا فيصل بمغربنا الحبيب إلى الذرى العالية التي تؤهله لها متانة أخلاقه، والبطولة الموروثة من أجداده، وتمسكه بدينه وبالأخلاق الإسلامية التي تسعده وتنيله رضا الله!

 

التاريخ للتربية العقلية:

 

والتاريخ للتربية العقلية، فيجب ان نعمل عقل التلميذ فيه كل الأعمال، فنكلفه ان يستنبط من المقدمات التي سمعها ما تقتضيه من نتيجة، فإذا سمع باستقامة دولة وتمسكها بالدين، ورسوخها في الصراط المستقيم، فإنها لابد ان يكون على القوة والازدهار، وعلى النجاح في كل الأمور، والتقدم والتفوق في كل النواحي، فيجب على المربى في درس التاريخ ان يسأل التلميذ ليعمل عقله فيتوصل إلى هذا الحكم، ويعرف هذه النتيجة، فيكون قد ربى فيه الخلق بالفاته إلى عائدة التمسك بالدين، وربى فيه العقل بالاستنباط والاستخراج! وإذا أراه دولة تتنكر لدينها، وتعرض عن الإسلام، وعما أمر به القرآن، وتحتقر الدين وتزدريه وتأخذ بالمذهب الهدامة التي وضعها أعداؤها، وبالقوميات الضيقة التي اختراعها أعداء الإسلام، فان عاقبتها لاشك هي الدمار والاضمحلال، وما تبوء به إنما هو الخسارة والهلاك، والتمزق والتفكك، وما يكون لها في صدور الأحرار والأمم إنما هو الاحتقار والازدراء، فيجب ان نترك التلميذ يستنبط هذا، ونحثه ان يعمل عقله فيتوصل هو إلى هذه النتيجة، فنكون قد قوينا انتباهه إلى ما يجب ان يتأثر به في التاريخ، وقرينا عقله بأعماله فيه، كما يجب ان يكون التمارين التي يعقب بها كل باب  مشتملة على أسئلة تدعو التلميذ إلى الاستنباط وتعمل عقله باستخراج النتيجة من مقدماتها.

----------

 

محمدعلي دبوز  تاريخ المغربالكبير ج2  ص9-14

Tags: تأريخ