نشأة الدولة الإباضية

كان الإسلام قد غرس حب العدل في القلوب، والغرام بالمساواة في النفوس، والتعليق بالديمقراطية؛ فكان من مآثر الدين الحنيف عند المسلمين قضاؤه على ظلم الجاهلية واستبدادها، وعلى غطرسة الملوك، وتجبر الأمراء، وحيف الرؤساء؛ وأشاع العدل الذي يتولد به الاتحاد والإخاء، والديمقراطية والمساواة التي هي أساس المحبة والرخاء.

وكان الإسلام قد فرض في رئاسة الدولة أن لا يتقدم إليها إلا من يرتضيه المسلمون لدينه واستقامته، وورعه وإخلاصه، وكفاءته العقلية والخلقية، ويقدمونه هم لرئاستهم، بدون أن يتخطى الرقاب إليها ويستولي بالقوة عليها. ولما خرم بنو أمية هذا الأصل العظيم، فاستبدوا برئاسة الدولة دون المسلمين، وجعلوا الدولة الإسلامية ملوكية كسروية، بعد أن كانت جمهورية تقوم على الإمامة العادلة، ويرأسها الإمام الذي تجمع عليه أغلبية المسلمين؛ وجعل الأمويون الملك تركة فيهم تورث، وعضوا عليه بالنواجذ، ووضعوا الأحاديث الكاذبة والنصوص المزورة التي تحصر رئاسة الدولة في قريش، وجعلوا الخلافة الإسلامية الشائعة التي يمكن أن يتقلدها كل ذي كفاءة من المسلمين ملكا عضوضا كسرويا مستبدا؛ محصورا فيهم،و خاصا بهم؛ ثار عليهم المسلمون لمخالفتهم للدين، واغتصابهم لرئاسة المسلمين.

وكانت الشورى في الرئاسة، والديمقراطية التامة في انتخاب رئيس الدولة، مما جاء به الإسلام، وأمر به الدين الحنيف، منعا للتحاسد والشقاق بين المسلمين، وصدا لغير الأكفاء أن يتسنموا عرش السلطان، إذا كان الأمر بالإرث في التيجان، كما وقع في بعض الأزمان، يموت الملك فتنتظر الأمة شباب صبي ينشأ على الفسولة والرخاوة كالديدان، ليتولى أمرها، وهي تعج بأصحاب الكفاءة، لان الملك مقصور على هذه العائلة، ورئاسة الدولة محصورة في تلك الأسرة، فهي معدن الذهب، وإن كان ذهبه قد نفد، ولم يبق فيه إلا الرغام الذي لا يليق إلا لبناء القبور ! وانطفأت نيرانها، وخبا جمرها، فلم يبق في كانونها إلا الرماد، أو عيدان خضر من المخنثين الذين لا يضطرمون كالأبطال بنار المدافع والرشاشات، والبنادق والقبائل في الميدان، وبالفكر في الخطط العبقرية، وحل مشاكل الأمة، ليورثوا لامتهم نضوجها، ولكن يملؤون الساحة بالدخان... فينعدم من جو أممهم الصفاء، وتخيم عليها التعاسة والشقاء ويكونوا مصدر ليلها الحالك الذي تغط فيه في النومات، فترتع فيها سباع الاستعمار، وتتفتح لها كل القبور.

إن الإسلام قد جاء بنظام الإمامة في رئاسة الدولة، ليقود الأمة الإسلامية في كل زمان أفضل أبنائها، وأكثرهم كفاءة، وأتمهم في الورع والنزاهة والإخلاص، فخرم بنو أمية وبنو العباس هذا الأصل، فثار عليهم المسلمون، وأنكروا عليهم مخالفتهم للدين، واستئثارهم بالرئاسة، وهي شورى بين المسلمين. فنشأت جماعات بعد استيلاء معاوية قهرا على الملك وقضى على الإمامة الإسلامية، فشددت النكير على الأمويين لهذه البدعة وعلى العباسيين بعدهم، ودعت إلى الرجوع إلى الإمامة الإسلامية. والى ما أمر به الدين في رئاسة المسلمين.

وكان مما ارث قلوب كثير من المسلمين على الأمويين والعباسيين ما ارتكبوه من جرائم في الملك، وما اهرقوا من دماء حرام، وما اظهروا من حيف في سياسة الناس، سيما من توسموا فيه انحرافا عنهم، ومنافسة لهم كالعلويين أبناء الإمام على رضي الله عنه وفاطمة الزهراء، وعبد الله بن الزبير، وإنكارا لسياستهم وظلمهم كالإباضية الذين تمسكوا بالجمهورية الإسلامية، وعملوا في كل العهود على أن يكون دستور الدولة هو القرآن، لا تحيد عنه، ولا تتمرد على أحكامه، وان يلتزم رئيس الدولة وولاته عدل الخلفاء الراشدين، وتمسكهم بالدين في سياسة المسلمين.

وكان الأمويون والعباسيون إلى عدم التزام العدل وأحكام الدين في كل أمورهم لا يسيرون في مال الدولة سيرة الخلفاء الراشدين، فينفقونه في مصالح المسلمين، ويضعونه حيث أمرهم الله، فيريشون به الفقراء، ويقوون به الدولة، ويبيدون به الفقر والمرض والجهل والشقاء، بل ينفقون الكثير منه في الشهوات والأهواء، ويخصون بالكثير منه الأولياء، ويقطعون به السنة الشعراء، ويصطنعونهم ليزجوا المدائح لهم، ويسكتوا عن ذكر المثالب التي تثير عليهم القلوب، وتظهر صفحتهم للرعية، وتكشف حقيقتهم للناس. ووظائف الدولة، والولاية على الأمصار؟ كانوا يخصون بها الأنصار، ويجعلون أكثرها لمن ساعدهم على الحصول على الملك، ولمن يخضع الرقاب لهم، ويسير وفق هواهم. فسخط المسلمون هذه السيرة، وثاروا على هذه السياسة.

وزادهم سخطا وشعورا بمرارة الحيف ما ألفوه من حلاوة العدل والمساواة في عهد الرسول وخلفائه الراشدين. فتكونت جماعات في العراق والجزيرة العربية ينكرون المنكر، ويدعون إلى الرجوع في رئاسة الدولة إلى الإمامة العادلة، والجمهورية الإسلامية، والى تقيد الدولة بالدين في سياستها، والتزام ما أمر الله به في كل أشيائها، ويعملون لإنشاء الدولة الإسلامية التي تقوم على الإمامة العادلة، والجمهورية الإسلامية، ليعيش الناس كما كانوا في عهد الرسول وخلفائه الراشدين، في عز ورخاء، وفي سعادة وإخاء، وتكون الأمة الإسلامية بنيانا مرصوصا يشد بعضه بعضا، فتهزم ظلام الكفر والفساد في كل الأقطار، وتشرق بنور الله في كل الأمم، وتكون نهرا عظيما تجمعت روافده واتحدت فروعه، ففاض، فغمر كل النواحي، وأورث الخصب والغنى والسعادة لكل البقاع. وكانت اكبر هذه الجماعات، وأكثرها إخلاصا لهذه المبادئ، وتمسكا بهذه المثل العليا، الإباضية أتباع عبد الله بن وهب الراسبي، وجابر بن زيد، وهو إمامهم في الدين. فكيف كانت شخصية هذا الإمام، وما خطوات الإباضية في إنشاء دولهم التي تلتزم في كل أمورها الدين، وتتمسك بعدل الخلفاء الراشدين.

محمد علي دبوز تاريخ المغرب الكبير ج3 ص 131-135

Tags: الهوية, تأريخ, حضارة, الإباضية, الجزائر, قيم, أخلاق, سياسة, إجتماع