في ضيافة مزاب مالك بن نبي
إن الطريق الذي اتخذته ما بين الجزائر العاصمة إلى غرداية في الأسبوع الماضي، يقطع المناطق الجزائرية الثلاث، فالمسافر يستطيع أن يشاهد في ساعات قليلة تلك المناظر النموذجية من التل ومن النجود، ومن الصحراء وهي تتلاحق أمام عينيه، إنه الخط أو الطريق الذي يبرز ثرواتنا السياحية المختلفة، ولاسيما في هذا الفصل من السنة حين يمد الربيع زربية خضراء تغطي كل المناطق السهلية منها والجبلية، إنه يقدم للمسافر طيلة الطريق، موكبا من الزهور الرائعة المختلفة التي تحيي المسافر وتستقبله، وكأنها فرقة شرفية.
وتبدأ المناظر الطبيعية في التغير شيئا فشيئا من أخضر فاتح إلى أخضر داكن وتبدو المسافات في التباعد ما بين الأشجار شيئا فشيئا، وتختفي عن الأنظار نهائيا كلما توغلنا نحو الجنوب، وتظهر فجأة القوافل الأولى للجمال وهي ترعى بمحاذاة خط سكة الحديد غير بعيدة من مدينة (عين وسارة) وغير بعيد عن هذه المنطقة، وقبل الوصول إلى (الجلفة) يظهر الكثيب الأول من الرمال الذهبية.
لماذا يجد الأجانب الذين يصلون إلى (مزاب) أنفسهم فجأة أمام مملكة سحرية رائعة خلابة ؟ ذلك هو السؤال الذي ألقي علي – أو هو على نحو من ذلك – وأنا أسْتقبَل بكل حفاوة من طرف المسؤولين في مركز الحزب بغرداية.
هل هو الابتهاج ؟ ولكن هذا الشعور أظنه إحساسا عاما، يشعر به كل أحد، حتى المسافر الجزائري القادم من الشمال يحس به، إني أعتقد أن هذا الشعور يعود أولا إلى الإحساس بالاغتراب، والابتعاد عن العمران.
هذا الاحساس الذي يحس به المرء وهو يقطع المسافة الطويلة الخالية العارية ما بين (الجلفة) و (مزاب).
إن الشعور بالاغتراب يحس به ابن (مزاب) أيضا حين يقف في (المستجاب) حيث خصصت التقاليد المحلية هذا المكان المطْلي باللون الأبيض الضارب إلى الزرقة ليقف فيه المسافر المغادر داعيا الله بالحفظ والسلامة حين يودع أهله وبيته متجها إلى مقر عمله بالتل.
إن السائح القادم من التل يشعر بمثل هذا الشعور، وهو يغادر الجلفة ليقطع الصحراء الشاسعة، إن الشعور بالابتعاد عن الأهل والعمران شعور متشابه.
إن ابن البلد يعبر عن ابتهاجه بالوصول وهو يؤدي صلاة شكر لله في (المستجاب). أما السائح فيشعر بالابتهاج والسرور حين يحس بالنجاة وهو يكشف فجأة أسطح المنازل الممتدة تحت عينيه وهو يصل إلى غرداية من أعالي جبالها المطلة عليها وعلى قرى وادي مزاب المجاورة.
وهكذا يجد السائح الغربي – المتعود على الأشجار وتزاحم السكان – نفسه فجأة في موطن آخر مغاير يتمثل في النخيل ووجوه المزابيين أنفسهم، إن السائح لا يبحث عن التغيير أو الجديد في الأوطان متمثلا في أي تغيير يحدث في الأمن الذي يراه، إنه شخص هارب مما تعود على رؤيته والعيش فيه، هارب من مكتبته، من مصنعه، من (المترو) من مدينته المضطربة الخائفة، إن ابتهاج السائح الذي يصل مزاب لأول مرة يفسره هذا الإحساس المزدوج، إنه يفر مثلنا من هذه المساحة الشاسعة الخالية التي تُهيْمِن على المشاعر على حساب الأخلاق والقيم.
إنه يجد في مزاب وجها لحضارة جديدة، إنه هذا الوجه الذي أهمني بصفة خاصة ولابد من العودة دونما شك في التاريخ الجزائري إلى الوراء.. إلى آخر عهد الدولة الرستمية لنجد الجذور لهذه الحضارة الموجودة هنا بعد انقراض الدولة الرستمية على يد الفاطميين في (تاهرت).
إن أصول هذه الحضارة إنما حملتها أمواج الأحداث إلى هذه المنطقة حملتها العواصف التاريخية الهوجاء بذرة واحدة وزرعتها حيث تنمو اليوم مدينة (العطف) التي هي جدة مزاب ومنذ ذلك الحين فإن البذرة تضاعفت و تكاثرت، واليوم فإن مزاب يتكون من: العطف، بونورة، مليكة، غرداية، بني يزقن، وأنا لا أورد هذه القرى حسب أولوية نشأتها التاريخية حتى لا أخطئ، غير أني أحدد بأن المدينتين (بريان)و(القرارة) اللتين يعود عمرهما إلى ثلاثة قرون هما آخر حلقة في شجرة هذا النسب.
إن هذه القرى تكوِّن مجتمعا متماسكا، وهذا التكون لا يعود إلى الخصائص الدينية فحسب، وإنما يعود إلى الإجماع الذي يُقعِّد كل علاقات الأفراد مع المجموعة والعكس، ومن ثم فإن المزابيين يكوِّنون مجتمعا روحيا بأتم معنى الكلمة أنهم (مورمون) الجزائر.
إن القاعدة الأخلاقية هنا تتطلب من كل واحد احترام المجموع، هذه القاعدة التي تُجبِر كل فرد على احترام المجتمع، وتفرض عليه السلوك السوي، هذه القاعدة الإجبارية تذهب إلى حد البراءة والنفي للأفراد في بعض الحالات التي تستدعي ذلك، ففي حالة إعلان البراءة من الشخص يصبح غير مستطيع الاندماج في المجتمع من جديد إلا بعد أن يعلن التوبة من ذنبه صراحة أمام الملأ في المسجد، إنه ما نسميه اليوم (النقد الذاتي) وإننا نلمس آثار المحافظة على هذه القاعدة الهامة في المجتمع هنا إذ أننا لا نرى في (مزاب) أية علامة للانحراف أو التشرد كما نراها في غير مزاب.
لم أر شخصا واحدا أُخِذَ بجريرة السُّكر في أزقة (غرداية) – على سبيل المثال – هذه المدينة الأكثر تفتحا باعتبارها تستقبل مختلف الأجناس ولم أر أية علامة للانحطاط الأخلاقي الاجتماعي، كأن يكون المرء في رحمة السؤال وطلب الصدقة، أني لم أر متسوِّلا واحدا طيلة إقامتي، وبتعبير آخر نقول: إن الوسط المزابي: يحقق بقوة الشروط النفسية والاجتماعية لبناء حضارة مصغرة (micro-civilsation)، إن الموضوع يستحق دراسة اجتماعية مفصلة غنية بالمعلومات، إن أبناء مزاب الذين يزاولون بكثرة اليوم التعليم العالي ينبغي عليهم أن يخصصوا بعض الأطروحات الأكاديمية لهذا الموضوع.
إن الذي أريد تسجيله هنا هو تعجبي من سؤال أحد المتعاونين –الذين تفضلوا باستضافتي إلى ناديهم بغرداية – حينما وجه إلي السؤال التالي:
“هل تعتقدون أن الموانع الدينية الموجودة هنا تسمح بتطور المجتمع؟”، يبدو لي أن هذا السؤال يحرق مراحل تاريخية هامة. فإنه قبل أن يفكر أي مجتمع في تبني أشكال حضارية جديدة للتطور عليه أن يفكر أولا في المحافظة على جوهره وماهيته، ويحافظ على وجوده، هذا الذي له الأولوية، فإذا حدث له انقلاب أو طفرة، فإن التطور عندئذ يصبح بالنسبة إليه أشبه ما يكون بممر خطير فوق هوة سحيقة دون حواجز فإنه بعثرة قدم واحدة يتدحرج ساقطا في الهوة، وهو السقوط في هُوَّة التسول والسكر، والعهر والتشرُّد.
وعندما أسأل هل الموانع الدينية تسمح للمجتمع بالتطور، فإن هذا السؤال يكون عندئذ كمن يقول لماذا لا يحطم المجتمع الحواجز لينتحر، إنني أعلم بالطبع أن السائل قد لا يقصد هذا ولكني أنا ترجمته واستشففته من خلال نظرتي إلى التاريخ والحضارة، وهي ليست نظرة السائل طبعا.
ومهما يكن من أمر، فإن المجتمع المزابي قد حافظ بحكمة وتبصُّر على الحواجز حتى يستطيع المرور من العصر الوسيط إلى العصر الحديث في أمن.
والواقع إنه توجد في هذا الجزء من الجزائر إمكانات للتطور غير مقدرة وغير معروفة في باقي نواحي القطر.
إنهم قلة قليلة أولئك الذين يعرفون أن أول مدرسة عصرية أنشأت بمدينة (تبسة) منذ ما يقرب من نصف قرن، وأقل من القليل من يعرف أن هذه المدرسة إنما أنشأها الشيخ عباس بن حمانة بمعونة تاجرَيْن من مزاب، إننا نرى هنا الوطنية الفتية والتقاليد الأصيلة (سموها إن شئتم موانع دينية) تلعب دورا مهما في الحفاظ على الشخصية الجزائرية في وقت كانت فيه مهددة تهديدا شديدا، إن بداية هذا التطور الثقافي تعود إلى أواخر القرن الماضي.
زرت في بني يزقن المكتبة التي تحتوي على التراث القيم الذي تركه الشيخ اطفيش، هذا العلامة الشهير الذي جاوزت شهرته حدود مزاب، بل وحدود القطر الجزائري، وأنا لا أتحدث هنا عن شهرته ونفوذه في المجتمعات الإباضية الأخرى من عمان إلى جبل نفوسة باعتباره عالما مسلما لا أكثر ولا أقل، تفاعل مع الأحداث الكبرى التي كانت تشغل العالم الإسلامي في بداية القرن العشرين عندما كان العالم الإسلامي يواجه أخطر اللحظات التي مر بها في تاريخه.
إن سليمان الباروني الذي جسد أهم الفترات الدراماتيكية للمقاومة الليبية ضد الاحتلال الإيطالي لم يكن سوى تلميذ من تلامذة الشيخ اطفيش، وهذا له دلالته العميقة.
أراني القيم على مكتبة الشيخ اطفيش – وهو من عائلته – أراني الأوسمة العلمية التي حصل عليها قبل 1908 التي هي سنة الثورة التركية، حين حصل الشيخ على وسام (الباب العالي) وحصل على وسام من سلطان زنجبار، ووسام من الأكاديمية الفرنسية لمقدرته العلمية.
مات الشيخ في سنة 1910 في دويرة، تُفُضِّلَ عليّ بزيارتها من باب يؤدي إليها من المكتبة نفسها، وهناك تحت السقف المتواضع المسقف بخشب النخل كانت الحلقة التي يجتمع فيها بتلامذته.
ولم ينقطع هذا التيار الثقافي الذي تركه الشيخ بموته، فقد كان له من تلامذته من واصل مسيرته التي تعتبر إرهاصا للحركة الإصلاحية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى في الجزائر.
وكان الشيخ أبو اليقظان – الذي زرته وهو على فراش المرض – من ألمع هؤلاء التلامذة.
واليوم قام المعهد الإسلامي بمدينة القرارة (معهد الحياة) تحت الإدارة الحركية الحازمة للشيخ بيوض بمد هذا التيار إلى مرحلة ما بعد الثورة حيث نجد التعريب من أهم المشاغل والاهتمامات الوطنية.
لقد اتصلت بتلامذة المعهد في عدة لقاءات، هذه الشبيبة المجتهدة التي تواصل حمل هذه الرسالة، وتحمي التقاليد الأصيلة دون أن تغفل مشاكل العصر، إنها تعالج مشاكل العصر ولكن دون أن تكون سببا لإزاحة الحواجز الواقية المشار إليها. و بالنسبة للاحتياجات المادية لتسيير المعهد فإن المجتمع هو الذي يقوم بها، هذا المجتمع الذي من خصائصه أن يكون كل فرد فيه من أجل المجموع وكل المجموع من أجل الفرد، إنها القاعدة السحرية التي تنظم الحياة والعلاقات في المجتمع المزابي.
ففي (العطف) حين تضررت الطريق المؤدية إلى غرداية بفعل فيضانات السيل، فإن الشبيبة قامت على الفور بإصلاح ما فسد، وفي (القرارة) حين تقرر بناء مسجد جديد قام الشباب على الفور بالعمل التطوعي، إن التطوع هنا من أهم قواعد العمل الاجتماعي.
كان لابد من إقامة أطول من أجل تفاصيل أكثر، فإن ما كتبته هنا عبارة عن خواطر ملخصة كنت أسجلها صدفة.
في “القرارة” قدموا لي ونحن في الواحة تحت النخيل إمام المسجد الذي عاد ولا شك لتوه من فلاحة نخله، كان يلبس لباس الفلاحين بقامة معتدلة متمنطق بحزام غليظ ذي مسامير نحاسية، ويداه القويتان مخددتان من كثرة العمل.
وفي “العطف” قمت بزيارة المسجد بين المغرب والعشاء فكان أن سلمت على المؤذن الذي استقبلني في هيأة العزابة (الرداء) كما كان متوقعا، ولكني دهشت حين التقيت به صباح غد بلباس الفلاحين في إحدى أزقة العطف وهو عائد من حقله. من هنا عرفت أن العمل هو القاعدة التي تحكم هذا المجتمع.
وهنا لابد أن أسجل هذه الملاحظة الهامة، على الجزائري الذي يزور (مزاب) أن لا يذهب إليه بهدف التصوير وأخذ المناظر الفتوغرافية كما يفعل السياح بحثا عن المناظر التقليدية ذات الألوان المحلية، وإنما ينبغي الذهاب إلى هناك بضمير الباحث الذي يرغب في تمزيق الأغلفة، فإنه بعد تمزيقها يجد في مزاب شيئا جديدا، هذا الجديد الذي هو مِلْكٌنَا جميعا.
المفكر الجزائري مالك بن نبي
جريدة الثورة الإفريقية، الصادرة بالفرنسية بالجزائر، بتاريخ: 20/05/1968.
تعريب الدكتور محمد ناصر
المصدر: موقع مركب المنار