رفع الأيدي في الصلاة
لماذا لا يرفع الإباضية أيديهم في الصلاة
مقدمة
الاختلاف في مسألة الرفع
أدلة الإباضية في ترك الرفع
مسالة القبض
الرد على شبهة مخالفة السنة
ملاحظات وتعليقات
الخلاصة
لماذا لا يرفع الإباضية أيديهم في الصلاة
مقدمة
رفع الأيدي في الصلاة لم يقل به أحد من علماء الإباضية، بل إن منهم من كرهه لاعتباره من الحركات المنافية للخشوع في الصلاة. ولهذا فقد تميز الإباضية منذ القرن الأول الهجري بعدم رفع أيديهم في الصلاة، أما المذاهب الأخرى فرغم ثبوت الرفع عندهم إلا أنهم مختلفون في حكمه فمنهم من أوجبه ومنهم من قال باستحبابه ومنهم من أجازه، كما اختلفوا أيضا في عدد مراته وتوقيته، هل هو قبل التكبير أو معه أو بعده،كما هو مفصل في كتب الفقه والحديث عندهم.
ومسألة الرفع هي من المسائل الجزئية في الفقه الإسلامي، وطرحها في هذا الوقت قد لا يأتي بجديد، كما أن الخلاف فيها قديم وهي من الخلافات الفرعية التي لا تمس العقيدة بشيء، ولا ينبغي أن تكون مثار خلاف ونزاع وجدال بين المسلمين؛ في وقت هم أحوج فيه إلى الوحدة والاجتماع والبعد عن الفرقة والاختلاف. لكن الدافع من طرحها الآن عدة أسباب منها:
أولا:- الإجابة على سؤال فقهي يتردد على ألسنة كثير من المسلمين من الإباضية وغيرهم. هذا السؤال هو: لماذا لا يرفع الإباضية أيديهم ولا يقبضونها في الصلاة؟ وما هي أدلتهم في ترك الرفع؟ ولماذا هم يختلفون عن بقية المذاهب في بعض جزئيات الصلاة، كالرفع عند التكبير، وترك التأمين والضم (وضع اليمنى على اليسرى)، وغيرها رغم وجود روايات في كتب الحديث استند عليها القائلون لهذه الجزئيات؟
ثانيا : إن بعض المعاصرين استغلوا كثرة الروايات الواردة في الرفع فوصفوا الإباضية بمخالفة السنة وإنكار الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم. فهل حقا يخالف الإباضية سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل هم ينكرون أحاديث الرفع؟ هذا ما سوف يتم طرحه ومناقشته والإجابة عليه في هذا البحث.
ثالثا: انتشار تيارات في الأمة الإسلامية، تتعصب لرأيها وترفض الرأي المخالف، وتتبنى مبدأ التبديع والتفسيق لكل من يخالفهم. كما أنها تملك من الإمكانيات المادية والإعلامية ما مكنها من أن تؤثر في أفكار كثير من المسلمين الذين لم تتح لهم الفرصة للاطلاع على الفقه المقارن. ونظرا للآلة الإعلامية القوية التي يملكها بعض أصحاب هذا الفكر، والتي تتمثل في الكم الهائل من الأشرطة والكتب ومواقع الانترنت والفضائيات، فقد أدّى هذا إلى تهميش الفكر الإباضي ، بل تعدى إلى وصف أتباعه بأوصاف متعددة منها مخالفة السنة والابتداع.
رابعا: العزلة التي عاشها الإباضية على مدى التاريخ وجهل كثير من المسلمين بحقيقتهم وتاريخهم، بالإضافة إلى نسبتهم إلى أهل البدع والأهواء والخوارج من قبل المؤرخين وأهل الحديث قد أوجد فجوة فكرية بينهم وبين إخوانهم من بقية المذاهب، كان لهذا أثر كبير في عدم ذكر آراء الإباضية وأدلتهم حتى ولو كانت مستمدة من الكتاب والسنة، أو وافقت إحدى المذاهب الأخرى.
لقد أصاب الفكر الإباضي قدر كبير من التشويه من قبل المؤرخين القدامى وأصحاب المقالات ومن بعض علماء الحديث، نتيجة للفتن التي تعرضت لها الأمة الإسلامية في القرن الأول الهجري وللظروف التاريخية التي مرت على الإباضية، ولعل من أهم أسباب ذلك أن الإباضية الأوائل لم يكونوا على وفاق مع الأمويين بعد أن ألصقت بهم تهمة الخوارج والابتداع، ولعل هذا ما جعل أهل الحديث وفقهاء المدارس الأخرى يعرضون عن الروايات والآراء الإباضية إعراضا شبه تام.
فمن يقرأ في كتب الفقه عند غير الإباضية لا يجد ذكرا للرأي الإباضي إلا فيما ندر، ومن يطالع في كتب الحديث لا يجد إشارة إلى أي محدثين إباضية إلا قليلا. وهكذا تعاقبت الأجيال على جهل كامل بالفكر الإباضي نتيجة الاعتماد على ما كتبه المؤرخون وأصحاب المقالات من معلومات خاطئة عن الإباضية، قد لا يكون مقصودا لكنه موجود.
ومن أمثلة ذلك أن مسند الإمام الربيع وهو حجة الإباضية في الحديث والفقه لا زال مجهولا عند كثير من المهتمين بالحديث، ورغم أن أغلب الأحاديث الواردة في مسند الربيع مروية في كتب السنة، إلا أنه يوجد قديما وحديثا من ينكر وجود الكتاب، ومنهم من ينكر حتى وجود مؤلفه، وقد سئل أستاذ معاصر يحمل شهادة الدكتوراه في علوم الحديث عن مسند الربيع بن حبيب فكان رده: سمعت عنه ولم أره. وسئل آخر وهو يشغل منصب رئيس قسم التفسير والحديث في إحدى الجامعات المعتبرة عن الربيع ومسنده فأجاب باستهزاء: من الربيع وما مسند الربيع؟.
وهذا أمر يدعو إلى الاستغراب في هذا الزمان الذي سهلت فيه الاتصالات ولم يعد العلم مكتوما أو مجهولا أو خافيا على أحد، فعن طريق البحث في الانترنت أو الاتصال عن طريق الهاتف أو السفر يستطيع أي شخص أن يتأكد من أي معلومة في أي مكان على وجه الأرض في وقت قصير لا يتجاوز عدة ساعات. ولذلك فإنه لا يعذر عند الله من لا يتحرى الصدق والإخلاص في البحث أو في نقل أي معلومة، ولا يعد منصفا من يتجاهل أقوال وآراء من يخالفه في الفكر وهو يعلم أنها موجودة وقريبة.
وبقدر ما نتأسف عند سماع ردود كهذه من رجال كرسوا حياتهم ودراستهم لعلم الحديث، إلا أنه قد نلتمس العذر لبعضهم، لأنه ربما لم تتيسر لهم الظروف للاطلاع على فكر الإباضية. ثم إن التعتيم السياسي والتاريخي على مدى أكثر من ألف عام كان له بالغ الأثر في صد المثقفين والباحثين عن الاطلاع على فكر الإباضية عموما.
كما أنه لا بد أن نسجل هنا أن الإباضية أنفسهم يتحملون نصيبا من جهل الناس لهم بسبب تقصيرهم في نشر فكرهم والتعريف بمذهبهم فيما سبق من الزمان. ورغم الجهود التي قام بها أمثال العلامة السالمي، والشيخ سليمان باشا الباروني، والشيخ أبو اسحق اطفيش، وما تقوم به وزارة التراث القومي والثقافة في سلطنة عمان وجمعية التراث في وادي ميزاب بالجزائر وغيرهما؛ إلا أن الكثير من الكتب الإباضية لا تزال مخطوطة، تنتظر من ينفض عنها غبار النسيان ويريها نور المطابع.
ومن جهة أخرى نذكر بكل أسف أنه يوجد من الباحثين والمفكرين والفقهاء المعاصرين من يعرف عن الإباضية تاريخا وفكرا وعقيدة ومع ذلك يحاول - عن قصد أو غير قصد - تهميش الفكر الإباضي والتعتيم عليه والرد عليه بطريقة غير موضوعية ولا علمية. ولا ندري سبب ذلك في هذا العصر الذي نتوقع فيه توفر الأمانة العلمية، والنقاش العلمي المتزن، والتفتح الفكري والعقلي.
ولعل سائلا يسأل: لماذا لم تنتشر آراء الإباضية قديما كما انتشرت غيرها من الآراء؟ والجواب أنه – بالإضافة إلى بعض ما تقدم - هناك أسباب كثيرة ليس هذا مجال التفصيل فيها، وإنما أذكر أهمها باختصار. ونأمل أن يقوم أحد الباحثين بدراسة تحليلية لهذه الأسباب التي من أجلها أُبعد الفكر الإباضي عن أمة المسلمين منذ زمن بعيد.
من هذه الأسباب :
1- اهتمام أهل الحديث بكتابي البخاري ومسلم وشروحهما وجعلهما كأساس للسنة.
2- اعتبار الإباضية من الفرق المبتدعة الضالة، مما أدى إلى تجنب كثير من المحدثين الرواية عنهم لأنهم اشترطوا فيمن يؤخذ عنه الحديث ألا يكون مبتدعا[1]. وكما تركوا الرواية عنهم تركوا ذكر كثير من رجالهم والقلة المذكورة لم تسلم في الغالب من الجرح[2] بسب انتمائها للفرق الضالة في زعم هولاء. وهذا بدوره جعل بقية المسلمين يعرضون عن الفكر الإباضي ويرفضونه.
3- قلة مصادر تاريخ الإباضية بذهاب كثير منها نتيجة التعصب والظلم والحسد وحرق المكتبات
4- تبني دولا إسلامية لمذاهب معينة تنقل آراءها وتنشرها.
5- منع كتب الإباضية من دخول بعض الدول الإسلامية.
6- ثقة بعض الكتاب المعاصرين العمياء بما كتبه الأقدمون حول الفرق ومن بينها الإباضية
7- انحسار الإباضية في مناطق بعيدة عن مراكز السياسية
8- ضعف العلاقة الاجتماعية بين المجتمعات الإباضية وبقية المجتمعات الإسلامية.
يأتي هذا البحث ليغطي جانبا مجهولا من الفقه اللاابضي وهو يتناول مسألة الرفع والقبض من منظور إباضي، وما هو محاولة لعرض بعض ما توصلتُ إليه من أدلة الإباضية في هذه المسألة، وليس قصدي من ذلك الرد على أحاديث الرفع والضم بقدر ما هو إثبات أن ترك الرفع والضم هو أحد الآراء الموجودة منذ القرن الهجري الأول.
يتكون البحث من أربعة فصول: الفصل الأول يتناول الاختلاف بين العلماء في مسألة الرفع. من حيث مشروعيته وعدد مراته ووقته. الفصل الثاني يبين أدلة الإباضية في ترك الرفع. والفصل الثالث عن الضم أو القبض في الصلاة وما قيل فيه. ثم فصل عن شبهة مخالفة السنة تليه خاتمة وملاحظات.
أرجو أن يكون هذا البحث مدخلا للتعرف على أدلة الإباضية في المسائل الخلافية عموما وفي رفع الأيدي وقبضها بصفة خاصة، وأنا أعلم يقينا أني لم أعط الموضوع حقه من البحث والدراسة ولكن أرجو أن يكون حافزا لغيري من المشتغلين بعلوم الفقه والحديث للتوسع فيه.
وأطمح أن يكون نشر آثار الإباضية دافعا لعلماء ومفكري الأمة الإسلامية للتعرف على فقه المذهب الإباضي ووضعه في مكانه الصحيح، من أجل توحيد صفوف المسلمين ولمّ شعثهم في عصرٍ هُم أحوج ما يكونون فيه للوقوف صفا واحدا لصد الغزو الفكري المتربص بهم في الداخل والخارج.
أسأل الله أن يلهمنا الرشد والتوفيق والهداية لأقوم طريق وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
المبحث الأول - الاختـلاف في مسألـة الرفـع
تمهيد
اختلف أهل العلم من المذاهب الأربعة في رفع الأيدي في الصلاة على عدة أوجه: أولا من ناحية مشروعيته، وثانيا في عدد مراته وثالثا في وقته. فمن ناحية مشروعيته منهم من قال باستحبابه، ومنهم من أجازه، ومنهم من نهى عنه، وقد تناولت العديد من كتب الفقه والحديث عند أهل السنة مسألة رفع الأيدي ولا يتسع المجال في هذا البحث الصغير للتوسع في ذكر ما قيل في الرفع في مختلف الكتب لكني اقتصر على بعض الأحاديث الواردة في الموضوع وعلى ما ذكره ابن حجر العسقلاني في" فتح الباري" لأنه اختصر أقوال من سبقوه من العلماء .
1- الاختلاف في حكم الرفع
نقل ابن حجر عدة أقوال في حكم الرفع منها قول النووي :أجمعت الأمة على استحباب رفع الأيدي في تكبيرة الإحرام ، ثم قال بعد أسطر: أجمعوا أنه لا يجب شيء من الرفع. كما نقل قول ابن عبد البر: "أجمع العلماء على جواز رفع اليدين عند افتتاح الصلاة". ونقل أيضا عن صاحب التبصرة عن مالك أنه لا يستحب. ونقل عن ابن المنذر عن الزيدية أنه لا يجوز رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام ولا عند غيرها. ونقل عن القفال عن أحمد بن يسار أنه أوجبه، وإذا لم يرفع لم تصح صلاته[1].
فهذه بعض أقوال العلماء في حكم الرفع، وهي تتراوح بين الاستحباب والجواز وعدم الجواز والوجوب. وهذا الاختلاف يدل على أنه أمر زائد عن الصلاة، وليس سنة دائمة للرسول e. ولو كانت كذلك لما تباين الحكم فيها إلى هذه الدرجة.
2- الاختلاف في عدد مرات الرفع
أما عدد مرات الرفع فقد اختلفوا فيها على عدة أقوال، ودليل كل منهم يستند على أحد الأحاديث المروية في كتب السنة. ومن هذه الأقوال:
أ- الرفع عند تكبيرة الإحرام فقط. وقد رُوي من عدة طرق أشهرها رواية عبد الله بن مسعود ورواية البراء بن عازب رضي الله عنهما. فعن عبد الله بن مسعود عند أبي داود والترمذي وأحمد بن حنبل قال: «ألا أصلي بكم صلاة رسول الله (ص) ، فصلى ولم يرفع يديه إلا مرة واحدة.»[2] ورواه أيضا الإمام مالك في المدونة الكبرى كمارواه الدارقطني[3] والبيهقي[4] بلفظ «وصليت مع النبي (ص) وأبي بكر وعمر فلم يرفعوا أيديهم إلا عند الاستفتاح». ورُوي من طريق البراء بن عازب «أن رسول الله (ص) كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ثم لا يعود». وروى مثله أبوهريرة.
والرفع عند تكبيرة الاحرام هو مذهب الإمام مالك وأتباعه. ففي المدونة الكبرى قال الإمام مالك: (لا أعرف رفع اليدين في شيء من تكبير الصلاة، لا في خفض ولا في رفع إلا في افتتاح الصلاة، يرفع يديه شيئا خفيفا، والمرأة في ذلك بمنزلة الرجل)، قال ابن القاسم[5] : (كان رفع اليدين ضعيفا إلا في تكبيرة الإحرام )[6]، وذكر القرطبي في تفسيره لسورة الكوثر بعد ذكر الخلاف في رفع اليدين قول ابن القاسم: (لم أر مالكا يرفع يديه عند الإحرام. قال: (وأَحب إلي ترك رفع اليدين عند الإحرام )[7].
وهذا القول هو نفسه قول الإباضية. ويفهم من هذا أن الإباضية لم ينفردوا بترك الرفع وإنما هو أحد أقوال متقدمي المالكية.
ب - الرفع عند تكبيرة الإحرام وقبل الركوع وعند الرفع من الركوع ودليلهم الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمر، وكذلك مسلم عن مالك ابن الحويرث، ونصه عند البخاري «رأيت رسول الله إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا وقال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد وكان لا يفعل ذلك في السجود»[8].
ج - الرفع عند تكبيرة الإحرام وقبل الركوع وعند الرفع من الركوع وعند القيام من السجدتين لحديث علي بن أبي طالب عند أبي داود والترمذي وأحمد ونصه: «عن علي بن أبي طالب عن رسول الله (ص) أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبّر ورفع يديه حذو منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع، ويصنعه إذا رفع رأسه من الركوع، ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد، وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبر. »[9]
د - الرفع عند المواضع السابقة وعند كل رفع وخفض وقيام وسجود وقعود كما ذكر ابن حجر نقلا عن الطحاوي في المشكل من طريق نصر بن علي عن عبد الأعلى بلفظ «كان يرفع يديه في كل خفض ورفع وركوع وسجود وقيام وقعود وبين السجدتين ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك»"[10]. ورغم أن ابن حجر علق على هذه الرواية بأنها شاذة إلا أنه ذكر بعد التعليق أن الحديث رُوي بطرق أخرى فقال: رواه الإسماعيلي عن جماعة من مشايخه الحفاظ عن نصر بن المذكور، وكذا رواه هو وأبو نعيم من طرق أخرى عن عبد الأعلى كذلك.
إذن لدينا خمس روايات مختلفة في عدد مرات الرفع تتراوح بين الرفع مرة واحدة والرفع في كل تكبيرة من تكبيرات الصلاة يصل فيها عدد مرات الرفع إلى ست وعشرين مرة في الصلاة الرباعية. فأي من هذه الروايات هي السنة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم؟
3- الاختلاف في وقت الرفع
اختلف القائلون بالرفع في توقيت الرفع. هل هو مع التكبير؟ أو أن التكبير يسبق الرفع؟ أو العكس. ففي حديث ابن عمر رفع يديه ثم كبر، وفي حديث مالك بن الحويرث كبر ثم رفع يديه وعن وائل بن حجر رفع يديه مع التكبير. وقد ذكر ابن حجر الرفع عند التكبير في رواية وائل بن حجر، وذكر تقديم الرفع عن التكبير وعكسه في حديثين أخرجهما مسلم الأول عن ابن شهاب الزهري والثاني عن مالك ابن الحويرث ثم قال وفي المقارنة وتقديم الرفع على التكبير خلاف بين العلماء.
مما سبق يتضح أن عدد روايات الرفع كثيرة وغير متفقة، فإذا أضفنا إليها روايات وضع اليد اليمنى على اليسرى والخلاف في موضع اليدين؛ هل توضع فوق السرة أو تحتها أو على الصدر؟ اجتمع لدينا عدد كبير من الروايات في هيئة الصلاة التي تتكرر عدة مرات في اليوم والليلة.
ومن خلال الروايات السابقة، لو تصورنا عمل الرسول (ص) في الصلاة لوجدنا أنه كان يصلي بإحدى الحالات الآتية:
· كان يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام مرة واحدة ثم يرسل يديه. وهم المشهور عند المالكية
· كان يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام مرة واحدة ثم يضع اليمنى على اليسرى. وهو رأي أبي حنيفة وأتباعه.
· كان يرفع يديه عند التكبير ثم يضع اليمنى على اليسرى. ثم يرفع يديه عند الركوع وعند الرفع من الركوع ولايرفع عند السجود. وهو رأي الحنابلة.
· كان يرفع يديه عند التكبير ثم يضع اليمنى على اليسرى. ثم يرفع يديه عند الركوع وعند الرفع من الركوع وعند السجود. وهو رأي بعض الوهابية[11]
· كان لا يرفع يديه لا عند التكبير ولا في غيره ولا يضع اليمنى على اليسرى. وهو رأي الإباضية.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو : أي من هذه الروايات هي السنة؟ ولماذا اختلفت الأمة الإسلامية في مسألة مثل هذه تكررت آلاف المرات في عهد رسول الله (ص) وفي زمن الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم من التابعين؟
فمن المعلوم أن الصلاة فُرضت على المسلمين بمكة قبل الهجرة، عاش بعدها النبي (ص) في المدينة عشر سنوات صلى فيها إماما بالصحابة رضي الله عنهم ما لا يقل عن خمسة عشر ألف صلاة غير السنن والنوافل، ثم حج النبي (ص) حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة، وحضر معه أكثر من مائة ألف صحابي من مختلف البقاع فصلى بهم في أيام الحج ثم خطب فيهم خطبته المشهورة، وبعدها بقليل إنتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وترك لنا الحديث المتواتر الذي يقول (صلوا كما رأيتموني أصلي)[12] ورغم ذلك، اختلف المسلمون في هيئة الصلاة وهي أكثر عبادة كررها النبي (ص) في حياته.
ويحق لكل مسلم أن يتساءل ما هي الهيئة الصحيحة التي كان يصلي بها الرسول ومن بعده من الصحابة والتابعين؟ هل هي هيئة واحدة أم أنه صلى بهيئات مختلفة؟ فكل مسلم يريد أن يحرص على السنة لينال أجر الاقتداء بالنبي (صلى الله عليه وسلم). فهل كان النبي يرفع يديه في أول أمره ثم نهى عن الرفع بعد ذلك؟ أم أنه كان لا يرفع في البداية ثم رُوي عنه الرفع، وإذا كان يرفع فهل كان يرفع مرة واحدة عند التكبيرة الأولى فقط، أو كان يرفع كلما كبر؟
الحقيقة المطلقة في علم الله، لكن بما أن جميع هذه الروايات وردت وتناقلتها الألسن في مجالس العلم، فلا يجوز لأحد إنكار ما صح منها، لكن لكل مسلم الحق في الأخذ بما اقتنع به من رأي، أو أن يقلد أحد المذاهب المعروفة دون أن يصف غيره بإنكار حديث أو مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثاني - أدلة الإباضية في ترك رفع الأيدي في الصلاة
نظرا لعدم اتفاق العلماء على هيئة واحدة في الرفع، ووجود أحاديث في النهي عنه، فإن جميع علماء الإباضية – متقدميهم ومتأخريهم - يرون أن رفع الأيدي في الصلاة ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو عمل زائد عن الصلاة، نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة وردت في مسند الإمام الربيع كما وردت في صحيح مسلم وغيره، كما سيأتي بيانه.
ولأن هذه المسألة من فروع الفقه وليست من أركان الصلاة، فإن أهم كتب الفقه عند الإباضيةلم تتعرض لهذه المسألة بالتفصيل فكتاب الايضاح للشماخي وقواعد الاسلام للجيطالي وهما من علماء الإباضية في المغرب لم يتعرضا إلى الخلاف في هذه المسألة رغم أن منهم من ذكر الخلاف الوارد في المسائل الأخرى كالخلاف في البسملة والقنوت وقراءة السورة في الركعتيتن الأوليين من صلاتي الظهر والعصر والتأمين.[1]
يقول الشيخ محمد بن يوسف اطفيش: "ولا قائلا برفع اليدين منا معشر المغاربة الإباضية عند الإحرام فمن رفعهما أو إحداهما قبل الشروع فيها صحت صلاته أو قبل الفراغ فسدت بناء على أن الإحرام منها وصحت بناء على أنه ليس منها أو بعد الفراغ فسدت". وقال الشيخ خميس من مشارقة أصحابنا رحمه الله: ويكره الإحرام قبل التوجه عندنا ورفع اليدين عنده ووضعهما على السرة والإشارة بالإصبع والتورك على اليسرى ولا بأس قيل على من فعل ذلك. وغيرنا يراها سنة.[2]
وبعد أن ذكر الشيخ اطفيش أقوال العلماء من المذاهب الأخرى المستندة على بعض الأحاديث، قال: وهذه الأحاديث كلها لم يصح سندها عندنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا جابر بن زيد رحمه الله روى عن سبعين من الصحابة وأكثر الأخذ عنهم؛ منهم أبو هريرة وابن مسعود وعمار وأنس وغيرهم كابن عباس، بل قال حويت ما عندهم من العلم إلا البحر الزاخر ابن عباس فإني لم أرو جميع ما عنده. ولم يثبت رفع اليدين عنده في الإحرام ولا في خفض ولا في رفع ولو صح عنه صلى الله عليه وسلم لرواه عنهم ولرآهم يفعلونه. وجابر بن زيد ثقة عند قومنا كما هو عندنا وإذا كان الأمر هكذا ولم يصح السند في رفع اليدين كان رفعهما إلى المنع أقرب لأنه زيادة عمل في الصلاة ومناف للسكون في الصلاة[3]
أما علماء المشرق فإن الشيخ نور الدين السالمي أورد الرفع من ضمن مكروها ت الصلاة. قال: "رفع اليدين عند الإحرام مكروه ناقض للصلاة عندنا لأنه زيادة عمل في الصلاة، وهو ينافي الخشوع المأمور به أو ينقصه".[4]
ويقول العلامة سلمة بن مسلم العوتبي " أجمع أصحابنا على ترك رفع اليدين في الصلاة لأشياء صحت عندهم في ذلك."[5] ونقل قول أبي الحسن البسيوي:" ولم نر أسلافنا يعملون ذلك ولم نرهم يفسدون صلاة من فعله، ومن فعله لم نره يفسد صلاة من لم يفعله" ونقل أيضا قوله " عندي أن العمل في الصلاة بغير معنى الصلاة لا يجوز، ورأيت رفع اليدين في الصلاة عمدا ليس هو من الصلاة، وقد جاء النهي عنه"[6] .
هذاوقد أجاز الإباضية الصلاة خلف من يرفع، قال الشيخ أحمد بن عبد الله الكندي: "أجاز المسلمون الصلاة خلف من يفرد الاقامة، ومن يسر ببسم الله الرحمن الرحيم، وخلف من يرفع يديه في الصلاة للتكبير، وخلف من يسلم مرتين، ولم يروا في ذلك زيادة ولا نقصان فيها"[7] .
وللاباضية أدلة اعتمدوا عليها في ترك الرفع وهي تنقسم الى قسمين: أدلة شرعية وأدلة عقلية.
1- وجود روايات تنهى عن الرفع:
جاء النهي عن الرفع في عدة أحاديث رواها أئمة الحديث منهم الإمام مسلم والنسائي وأبو داود، كما رواه الإمام الربيع بن حبيب ونكتفي براوية الإمام الربيع في الجامع الصحيح ورواية الإمام مسلم في صحيحه.
أ - رواية الإمام الربيع :أبو عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «كأني بقوم يأتون من بعدي يرفعون أيديهم في الصلاة كأنها أذناب خيل شمس. »[8]
ب- : رواية الإمام مسلم: « حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا لِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ اسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ، قَالَ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَرَآنَا حَلَقًا فَقَالَ مَالِي أَرَاكُمْ عِزِينَ، قَالَ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا قَالَ يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ. وحَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ و حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَا جَمِيعًا حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ. »[9]
فهذا الحديث الذي ينهى عن الرفع ثابت عند الإباضية وغيرهم، ورغم وضوح معناه، إلا أن القائلين بالرفع اعترضوا بأن النهي عن الرفع مقيد بحالة الرفع عند السلام وقد رواه حديثا غير واحد من المحدثين منهم البخاري في جزء رفع اليدين ومسلم في صحيحه[10]، لكن المتأمل فيما اعترضوا به يجد أن كلمة السلام لم ترد إطلاقا في هذا الحديث بل وردت في حديث آخر وأنه لا يمكن أن يكون الحديثان حديثا واحدا، فلا يثبت التقييد لأن ظاهر هذا الحديث ينهي عن مطلق الرفع في الصلاة بما فيه الرفع عند السلام.
2- وجود روايات تذكر التكبير في الصلاة بدون ذكر الرفع
وردت أحاديث في الصحاح عمن رُوي عنهم الرفع في البخاري ومسلم وغيرهما ولاذكر فيها للرفع، منها:
أ- الحديث المشهور باسم " المسيء في صلاته" الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة وغيره« أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلّى فسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد وقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل"، فرجع يصلي كما كان صلّى، ثم جاء فسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل" (ثلاثا) فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني. فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، وافعل ذلك في صلاتك كلها»[11].
وهذا الحديث هو الأصل الذي بنيت عليه صحة الصلاة ولذلك قال بعض العلماء إن ما ذكر في هذا الحديث فهو واجب وما سواه فهو غير واجب. والرفع لم يذكر في هذا الحديث وكذلك وضع اليد اليمنى علي اليسرى. فلو كان الرفع والقبض من أعمال الصلاة لبينهما الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل.
ب - وفي صحيح مسلم أيضا من أكثر من طريق حديث عن أبي هريرة يتحدث عن التكبير ولا ذكر فيها للرفع. وهذا نص إحدى الروايات:
«حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا بن جريج أخبرني بن شهاب عن أبي بكربن عبد الرحمن أنه سمع أبو هريرة يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام الى الصلاة يكبر حين يقوم. ثم يكبر حين يركع ثم يقول "سمع الله لمن حمده" حين يرفع صلبه من الركوع ثم يقول وهو قائم "ربنا ولك الحمد" ثم يكبر حين يهوي ساجدا. ثم يكبر حين يرفع رأسه. ثم يكبر حين يسجد. ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يفعل مثل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها ويكبر حين يقوم من المثنى بعد الجلوس". ثم يقول أبو هريرة إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم»[12]. وهذا الحديث رواه أيضا النسائي
وفي رواية أخرى في صحيح مسلم عن يحي بن يحي قال: « قرأت على مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة كان يصلي لهم فيكبر كلما خفض ورفع فلما انصرف قال: والله إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم»[13] .
فالروايتان السابقتان عن أبي هريرة خاليتان من الرفع عند التكبير رغم أن الأولي مروية عن ابن شهاب الزهري الذي روى حديث الرفع عند التكبير في الإحرام والركوع والرفع من الركوع، كما أن أبا هريرة (رضي الله عنه) الذي رُوي عنه الرفع عند التكبير الأول والركوع والرفع منه رُوي عنه أيضا الرفع مرة واحدة.
ج - روى أبو داود في باب من لم يذكر الرفع عند الركوع[14] عن مسدد « أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الصلاة رفع يديه مدا. ومسدد هو نفسه روى حديثا في سنن أبي داوود عن وائل بن حجر في الرفع في أكثر من موضع. »[15]
د – روى أبو داود أيضا عن سالم البراد قال: « أتينا عقبة بن عمرو الأنصاري أبا مسعود فقلنا له حدثنا عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم فقام بين أيدينا في المسجد فكبر فلما ركع وضع يديه على ركبتيه وجعل أصابعه أسفل من ذلك وجافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه ثم قال سمع الله لمن حمده فقام حتى استقر كل شيء منه ثم كبر وسجد ووضع كفيه على الأرض ثم جافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه ثم رفع رأسه حتى استقر كل شيء منه ففعل مثل ذلك أيضا ثم صلى أربع ركعات مثل هذه الركعة فصلى صلاته". ثم قال هكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي. »[16]
والروايات السابقة تتوافق مع ما رواه أبوغانم الخراساني عن الربيع بن حبيب قال (حدثني أبو عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام الى الصلاة كبر حين يقوم فيها، وإذا ركع كبر، وإذا طأطأ راسه في السجود كبر وإذا رفع رأسه من السجود كبر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل هذا كله )[17]
يُفهم من هذه الأحاديث أن الرفع ليس من الأعمال الأساسية في الصلاة، وأن الذي لا يرفع يديه مع التكبير ليس مخالفا لسنة أو منكرا لحديث كما يقول البعض، بل إن الذي يرفع يديه هو الذي يخشى عليه أنه خالف الأصل لورود النهي عن الرفع كما تقدم.
3- الاختلاف في مفهوم السنة
يرى الإباضية أن اصطلاح السنة يقصد به كل قول أو عمل أو تقرير صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت خلاف فيها. أما الروايات المختلف فيها أو في نسبتها الى الرسول صلى الله عليه وسلم فلا تدخل تحت إطار السنة الواجب العمل بها .
يقول الشيخ علي يحيى معمر رحمه الله: (إن الأعمال التي صدرت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) في بعض العبادات لسبب عارض، أو فعلها ولم يعد إليها، أو لم يثبت أنه داوم عليها، لا يعتبروها سنة، وإنما يرونها واقعة حال يمكن الإتيان بها في ظروف مشابهة فقط ، ومنها:القنوت في الصلاة، ورفع الأيدي عند التكبير والجهر بكلمة آمين بعد الفاتحة في الصلاة، وزيادة (الصلاة خير من النوم في أذان الفجر).[18].
يُفهم من قول الشيخ علي يحي معمر أن سنن الصلاة هي الأعمال التي داوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت الاختلاف فيها، ومن أمثلة ذلك: المضمضة والاستنشاق وأوقات الصلوات وعدد الصلوات في اليوم، وعدد ركعات الصلاة. كل ذلك من المتواتر العملي من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعرف خلاف فيها. أما الرفع فإن الاختلاف فيه يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يداوم عليه دواما يجعله يصل إلى مرتبة السنن المؤكدة.
4- القول مقدم على الفعل و النهي مقدم على الأمر
من القواعد الفقهية المقررة عند الفقهاء أن قول النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على فعله. يقول الشيخ علي يحي معمر "إذا تعارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم وعمله، ولا يمكن الجمع بينهما، فالقول أقوى لأنه أساسا موجه إلينا أما عمله فيحتمل الخصوصية"[19]. ومن أمثلة ذلك ما رواه النسائي وابن ماجة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قال" من أدركه الصبح وهوجنب فلا يصوم "[20] والذي يعارضه الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة وأم سلمة أن رسول الله ص كان يدركه الفجر وهو جنب "[21]. فالإباضية يعملون بحديث أبي هريرة بناء على قول النبي صلى الله عليه وسلم. أما غيرهم فأغلبهم يأخذون بحديث عائشة رغم أنه قد يحتمل الخصوصية. كما أن الأخذ بالقول هو نوع من الاحتياط.
وكذلك الرفع، فإذا ثبت أن النبي رفع يديه في الصلاة ، وثبت أيضا أنه نهى عن الرفع، فالأخذ بالنهي أولى. لأن النهي مقدم على الأمر وهو أيضا من القواعد الفقهية لقوله صلى الله عليه وسلم"إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا"[22]
فحديث النهي عن الرفع واضح وصريح بينما الأحاديث المروية في الرفع ليست صريحة، فكل روايات الرفع ، إما هي من أقوال أو أفعال الصحابة، أو قول الصحابي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرفع يديه أو ما شابه ذلك. فلم يثبت حديثا صريحا يأمر بالرفع كما ورد في النهي عنه.
5- الأخذ بمبدأ الاحتياط – الاكتفاء بالأصل خروجا من الخلاف
الاحتياط من المبادئ التي التزم بها الإباضية في العبادات والمعاملات منذ القرون الأولى. فهم يحتاطون في أمور الصلاة عامة وفيما يتعلق بالطهارة التي هي أساس الصلاة خاصة. ومن أجل هذا المبدأ فقد وصفهم بعض مخالفيهم بالتشدد في الدين وخصوصا فيما يتعلق بالطهارة للصلاة والشواهد على هذا كثيرة في الفقه الإباضي. ومن أمثلة ذلك القنوت في الصلاة، فبعض العلماء يرى أن القنوت في الفجر بينما يرى غيرهم أن القنوت في الوتر، أما الإباضية فلا يرون القنوت. كما يعتبرون الدم ناقضا للوضوء، ويقولون بإعادة الصلاة إذا تأكد المسلم أنه صلى في ثوب نجس، بينما من غيرهم من يرى أن الدم لا ينقض الوضوء، ولا إعادة على من صلّى بثوب نجس، إلى غير ذلك من الاحتياطات. كل ذلك خوفا من الوقوع في الشبهة أو مخالفة السنة.
يقول الشيخ أحمد الخليلي: "واعلم أن مسلك أصحابنا في الصلاة الاحتياط بعدم الأخذ إلا بالروايات التي لا يحوم حولها أي ريب في المسائل المختلف فيها لأن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام الذي يلي العقيدة مباشرة، والمحققون من العلماء على اختلاف مذاهبهم لا يقبلون الحديث الآحادي كحجة في المسائل الاعتقادية، لعدم إفادته القطع، فكانت الصلاة المجاورة للعقيدة في الترتيب حرية بالحيطة، على أن من العلماء من قال في صلاة أصحابنا إنها ثابتة بالإجماع، لأن ما يتركونه من الأعمال فيها مختلف فيه عند غيرهم."[23]
فترك الرفع هو الأصل كما ورد في الأحاديث السابقة، وهو لا ينقص من أعمال الصلاة ولا يبطلها، كما أن الرفع قد يدخل المسلم في مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الرفع للحديث المتقدم ذكره، ويخشى منه عدم قبول الصلاة. وهذا من الاحتياط.
6- إجماع العلماء على صحة الصلاة بدون الرفع
مع كثرة الأحاديث الواردة في الرفع، فإن الفقهاء قالوا أن الرفع ليس شرطا في صحة الصلاة. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري[24] نقلا عن ابن عبد البر: "أجمع العلماء على جواز رفع اليدين عند افتتاح الصلاة". والإمام أبو داود رغم ميله إلى الرفع في أكثر من موضع كغيره من أهل الحديث إلا أنه أفرد بابا خاصا بعنوان "الرخصة في ترك ذلك".
وهذا يدل على أنه ليس شرطا في صحة الصلاة، ولا يعتبر ركنا من أركانها، وليس من السنن المؤكدة، بل إن العديد من الفقهاء يذكرونه في المستحبات. يقول ابن عبد البر "رفع اليدين أو إرسالهما كل ذلك من سنن الصلاة"
فابن عبد البر ما كان ليقول هذا لو كان يعلم أن ترك الرفع مخالفةٌ للسنة، ولكنه وجدكثرة الجدال في هذه المسألة فأصدر هذا الحكم، رغم أن القول الذي قاله يحتاج أيضا إلى نظر فلا يمكن أن تكون السنة شيئين متناقضين.
7- تحفظ الإباضية على بعض أحاديث الرفع
كثير من الأحاديث المروية في الرفع فيها اضطراب في متنها أوسندها وقد قام الشيخ أحمد بن سعود السيابي بمناقشة بعض من هذه الأحاديث في رسالة "الرفع والضم في الصلاة" كما أن بعض علماء الإباضية، تحفظوا على الأحاديث المروية عن ابن شهاب الزهري ومنها الحديث الذي رواه عن ابن عمر في الرفع. وسبب التحفظ يرجع الى ارتباطه بحكام بني أمية. وقد أنكر كثير من العلماء حتى من غير الإباضية اتصال ابن شهاب الزهري بالأمويين وكتبوا له يلومونه على ذلك. قال الإمام أبو يعقوب الوارجلاني في كتابه الدليل والبرهان "فكتب إليه عشرون ومائة من الفقهاء يؤنبونه ويعيرونه بما فعل، منهم جابر بن زيد، ووهب بن منبه، وأبو حازم الفقيه، فقيه المدينة وأمثالهم وقد وقفت على كتب هؤلاء الثلاثة إليه"[25]
7- اشتهار الإباضية بالصدق
شهد المخالفون للاباضية بأنه لم يعرف عنهم الكذب في الحديث عن رسول الله (ص). وقد روى عن بعض العلماء - منهم ابن تيميه - أن الخوارج من أصدق الناس في الحديث[26]. لأنهم يعتبرون الكذب من الكبائر التي يخلد صاحبها في النار إن لم يتب. ويقصدون بالخوارج هنا "الإباضية" لأنه من المعروف أن الخوارج لم يهتموا برواية الحديث أوالفقه لانشغالهم بالحروب عن العلم.
8- الرفع الوارد في الأحاديث قد يكون قبل النهي عنه
نظرا لورود الأحاديث المختلفة في الرفع فيمكن الجمع بين الروايات المختلفة في الرفع بالقول إن الرفع المذكور في الأحاديث كان قبل النهي عنه، وأن الرسول كان في أول أمره يرفع يديه في الصلاة، إما مرة واحدة في تكبيرة الإحرام ، أو عدة مرات في مواضع أخرى، ونقل عنه الصحابة هذه الأحاديث، ولكنه في آخر الأمر نهى عن الرفع لحديث جابر بن سمرة الذي تقدم ذكره.
9- الإباضية من أول المذاهب الإسلامية تَكَوّنا:
فالإمام الأول للإباضية هو جابر بن زيد، ولد في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعاش في البصرة التي كانت مركز الإشعاع العلمي في ذلك الوقت، كما عاصر كثيرا من الصحابة والتابعين و أخذ العلم على كثير منهم، كأم المؤمنين عائشة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وأبي هريرة وغيرهم.
رُوي عنه أنه قال: "أدركت سبعين بدريا فحويت ما عندهم إلا البحر". ولم يثبت عند الإباضية أن جابر بن زيد أو تلاميذه رفعوا أيديهم في الصلاة أو أمروا بالرفع. فلو كان رفع اليدين أو وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة من السنن المؤكدة التي أجمع عليها الصحابة رضوان الله عليهم لكان أول من عمل بهما جابر بن زيد، ولو عمل بهما لنقلهما عنه تلاميذه وأشهرهم أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة، الذي تتلمذ عليه حملة العلم إلى المشرق وحملة العلم إلى المغرب وخراسان، الذين انتشروا في الأمصار منذ بداية القرن الثاني الهجري. فترك الرفع انتقل بالتواتر العملي منذ القرن الأول الهجري جيلا عن جيل حتى وقتنا هذا.
المبحث الثالث - مسألة القبض أو الضم أو وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة
1- تمهيد
وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة أو ما يسمى بالقبض أو الضم أو الكفت هي من الأعمال التي اعتبرتها بعض المذاهب من السنة، لكن الإباضية والمالكية خالفوهم في ذلك لعدم ثبوت الروايات لديهم فيها.
وقد كتب في هذا الموضوع أكثر من واحد من علماء المالكية منهم:
1- الشيخ محمد عابد مفتي المالكية بمكة في "القول الفصل في أدلة السدل"
2- مختار بن امحيمدات الداودي الباسكني الشنقيطي في "مشروعية السدل في الفرض"
3- الشيخ محمد بن الخضر الشنقيطي في "إبرام النقض لما قيل من أرجحية القبض"
2- الخلاف في وضع اليمنى على اليسرى
اختلف أهل العلم في وضع اليد اليمني على اليسرى في الصلاة كما اختلفوا في الرفع. فقد رَوَى وضع اليمنى على اليسرى طائفة من أهل العلم، وبهذا الرأي أخذ أتباع أبي حنيفة والشافعي وابن حنبل، وقد روي إرسال اليدين عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي، ويقول ابن عبد البر إن إرسال اليدين ووضع اليمنى على اليسرى كل ذلك من سنن الصلاة.[1]
أما المالكية فلهم في وضع اليمنى على اليسرى ثلاثة أقوال: أولا: توضع في النفل فقط. ثانيا : توضع في الفرض والنفل. ثالثا: لا توضع في الفرض ولا في النفل[2] وهو المعمول به عند متقدمي المالكية، لكن الملاحظ أن كثيرا من متأخري المالكية قد تأثروا بالمذهب الوهابي وبدؤوا يقبضون أيديهم في الصلاة.
واختلف القائلون بالقبض في الموضع الذي توضع فيه اليد. فقد رُوي وضع اليمنى علي اليسرى فوق الصدر عن علي بن أبي طالب. ورُوي وضعها فوق السرة عن سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل. ورُوي وضعها تحت السرة عن أبي هريرة وسفيان الثوري وإسحاق.[3]
أما الإباضية فإنهم منذ عهد الإمام جابر بن زيد في القرن الأول الهجري، لا يقبضون أيديهم في الصلاة، فقد ثبت لديهم أن الأحاديث الواردة في القبض ليست من القوة والصراحة بأن تكون سنة من سنن الصلاة الواجب العمل بها، وقد ناقش هذه الروايات الشيخ أحد بن سعود السيابي في "الرفع والضم في الصلاة".[4]
3- أدلة القائلين بالقبض
استند القائلون بالقبض على عدة أحاديث. قيل: إن القبض رُوي عن ثمانية عشر صحابيا واثنين من التابعين، لكن المعترضين على هذه الأحاديث قالوا: إن كل الأحاديث الواردة في القبض لا تخلو من مقال. قال مختار الداودي:( وقد يحتج باستحباب القبض أنه رُوي عن ثمانية عشر صحابيا واثنين من التابعين. وسأخصهم لك بالتفصيل والتبيين، وذلك بما قال في طرقهم أئمة السلف – إن شاء الله تعالى – ليتبين لكل منصف أن السنة لا تثبت بمثل هذه الأدلة).[5] وقد تتبع الداودي هذه الأحاديث، واحدا واحدا مبينا العلة في كل منها.
ويقول الشيخ محمد عابد" وبالجملة فأحاديث القبض ليس أكثرها صحاحا ولا حسانا ولا سالما من الضعف، بل كلها بين موقوف ومضطرب وضعيف[6].
ومن أقوى الأحاديث التي رويت، والتي استند عليها القائلون بالقبض، ثلاثة أحاديث، نذكرها مع ما قيل فيها.
هذه الأحاديث هي:
1- حديث سهل بن سعد
«حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة. قال أبو حازم لا أعلمه إلا ينمي ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم». رواه البخاري و أحمد[7] ،
قال الشيخ محمد عابد" إن القبض لم يرو من طريق صحيح ليس فيه مقال إلا من طريق سهل بن سعد المروي في الموطأ[8] والبخاري ومسلم[9]، وليس في البخاري غيره."[10]
ويقول عن هذا الحديث " وهو مع كونه لا غبار عليه في صحة إسناده لا أوّلا ولا آخرا إلا أن الداني قال في أطراف الموطأ هذا الحديث معلول لأنه ظن من أبي حازم لقوله لا أعلمه، ورده ابن حجر بأن أبا حازم لو لم يقل لا أعلمه لكان في حكم المرفوع.[11]
ويقول مختار الداودي معلقا على الحديث" ففي هذا الحديث ثلاث جمل: جملة للصحابي سهل (رضي الله عنه) ,وجملتان للتابعي أبي حازم. فأما جملة سهل(رضي الله عنه) وهي: "كان الناس يؤمرون .." فإن سهلا لم يسند الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما بناه للمجهول، وقد اختلف أئمة السلف في حكم بناء الصحابي الأمر للمجهول على قولين: الأول في حكم المرفوع والثاني على أنه موقوف. ثم فصّل الداودي في من قال بالرفع والوقف. ثم تطرق الى قول أبي حازم وذكر الاختلاف فيه[12].
أما الشيخ محمد الخضر فيقول: "ما ذكروه من الأحاديث ليس فيه حديث صحيح سالم من الطعن."[13]، ثم بين العلة في حديث سهل بن سعد، وذكر الاختلاف في رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووقفه على الصحابي سهل بن سعد رضي الله عنه.
2- حديث وائل بن حجر
« عن علقمة بن وائل ومولى لهم أنهما حدثاه عن أبيه وائل بن حجر أنه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة رفع يديه حيال أذنيه ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد ثم أتيتهم بعد ذلك في زمان فيه برد شديد فرأيت الناس عليه جل الثياب تحرك أيديهم تحث الثياب» أخرجه مسلم[14].
وقد تكلم في هذا الحديث كثير من العلماء كما هو مفصل في الكتب المذكورة وخصوصا في سماع علقمة من أبيه. قال الترمذي: سألت البخاري: هل سمع علقمة من أبيه وائل؟ فقال: "إن علقمة ولد بعد موت أبيه بستة أشهر"، قال النووي في تهذيب الأسماء إن رواية علقمة عن أبيه مرسلة وأما المولى الذي مع علقمة فمجهول لا يعرف.[15]
3- حديث عبد الله بن مسعود
«عن عبد الله بن مسعود أنه كان يصلي فوضع يده اليسرى على اليمنى، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على اليسرى». أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة[16] وأخرجه الدارقطني من طريق أحمد بن شعيب قال أنبأنا عمر بن علي أنبأنا عبد الرحمن أنبأنا هشيم عن الحجاج بن أبي زينب قال سمعت أبا عثمان يحدث عن عبد الله بن مسعود[17].
يقول الشيخ محمد عابد : "مدار رواياتهم كلها عن الحجاج بن أبي زينب وقد نقل في الميزان عن ابن المديني أنه ضعيف. وقال النسائي ليس بالقوي وقال الدارقطني ليس هو بقوي ولا حافظ وقال أحمد أخشى أن يكون ضعيفا. نعم قال يحي بن معين: لا بأس به وفي سنده أيضا عبد الرحمن بن إسحق الكوفي وهو ضعيف. قال البخاري فيه نظر، واتفقوا أنه لا يقول هذه الكلمة إلا فيمن كان ضعيفا باتفاق كما ذكر ابن خلدون وغيره. [18]
يقول الشنقيطي معلقا على الحديث: ( رواه أبو داود من طريق محمد بن بكار عن هشيم بن بشير عن الحجاج بن أبي زينب عن أبي عثمان عن ابن مسعود رضي الله عنه من طريق هشيم ومن بعده. وقد اقتصر الذهبي في الميزان (4|412) على أن محمد بن بكار مجهول وأما هشيم بن بشير ففي الميزان (5|431) وتقريب التهذيب (2|296) كثير التدليس الخفي وأما الحجاج بن أبي زينب فقد ضعفه المديني والنسائي وأحمد والدارقطني كما في الميزان (1|462) . ومع ضعف سند حديث ابن مسعود فإن متنه لا يصح لأن ابن مسعود من كبار المهاجرين، فلا يصح أن يجهل هيئة فعل من أفعال الصلاة التي يتكرر اقتداؤه فيها بالنبي ص خمس مرات كل يوم أن لو كان الفعل من هيئاتها فلا ينبغي لأحد أن يتهمه بهذه الغباوة.[19] ) انتهى
الأحاديث الثلاثة السابقة هي من أصح وأقوى الأحاديث في موضوع القبض، وقد ذكرنا اختصار ما قال فيها أهل العلم. أما بقية الأحاديث فهي كما قال الشيخ عابد ما بين موقوف ومضطرب وضعيف.
4- أدلة الإباضية في السدل
أما الإباضية فلا يعرفون القبض منذ الإمام جابر بن زيد في القرن الأول الهجري، ولم يرد ذكره في أي كتاب من كتب الفقه عندهم، ورغم معرفتهم بالروايات المتعددة إلا أنهم رأوا أن الأحاديث الواردة فيه ليست من القوة والصراحة بأن تكون سنة من سنن الصلاة الواجبة.وقد ناقش روايات الرفع الشيخ أحد بن سعود السيابي في رسالة سماها الرفع والضم في الصلاة طبعتها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بوزارة الأوقاف،كما علمت أن أحد الباحثين يقوم الآن بتحقيق أحاديث الرفع والضم تحقيقا علميا في كتاب نأمل أن سيصدر قريبا إن شاء الله.
ولا يقتصر القول بالسدل على المالكية والإباضية وإنما رُوي عن كثير من كبار التابعين منهم سعيد بن المسيب،وسعيد بن جبير ومجاهد، والحسن البصري، والنخعي ،وابن سيرين مما يدل أن القبض لم يكن معروفا لديهم[20]، كما روي عن الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير[21] بأنه كان يسدل يديه في الصلاة.
و يمكننا أن نستنتج آراء الإباضية من خلال ما سبق ومن أدلة الإباضية في ترك الرفع. ونلخصها فيما يلي:
أ- الأصل في الصلاة هو السدل، والقبض شيء زائد عنها، ونظرا لاختلاف العلماء فيه فقد أخذ الإباضية بالأصل وتركوا ما عداه.
ب- الاختلاف يدل على الجواز، ولعل أصوب ما قيل في هذا الأمر قول ابن عبد البر" إرسال اليدين أو ضمهما كل ذلك من سنن الصلاة"
ج-روى الإمام مالك أحاديث القبض في الموطأ، ومع ذلك لم يعمل بها هو ولا أغلب أتباعه، فقد اختلف علماء المالكية الأوائل في القبض على ثلاثة أقوال حسب ما ذكر القرطبي[22]، لكن الذي استقر عندهم أنهم لم يعملوا به. وهذا يدل أن جميع الأقوال كانت موجودة ولكن لم ينكر أحد من السلف على غيره مخالفته للسنة، لدرجة أن الإمام مالكا نفسه رفض طلب أبي جعفر المنصور أن يلزم المسلمين بأحاديث الموطأ، فقد روى ابن عساكر بالسند إلى مالك بن أنس قال: (لما حج أبو جعفر المنصور دعاني فدخلت عليه، فحادثني وسألني فأجبته فقال إني قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها - يعني الموطأ - فتنسخ نسخا، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها لا يتعدونه إلى غيره، ويدعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المحدَث، فإني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم، قال: فقلت يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم منهم بما سبق إليهم، وعملوا به، وإن ردهم عما اعتقدوه تشديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم، فقال لعمري لو طاوعتني على ذلك لأمرت به).
إنّ الذي يفهم من كلام الإمام مالك أنه رُويت روايات مختلفة في فروع الفقه يعارض بعضها بعضا، فلم ينكرها أو يضعفها أو يرجح عليها ما رواه في الموطأ، ولكن ترك الناس يعملون بما وصل إليهم من رواية وعلم مما يعتقدون أنه الحق. ولو كان الإمام مالك ممن يحب الدنيا أو الشهرة لطار قلبه فرحا بهذا العرض الذي جاءه من أمير المؤمنين.
وهذا الخُلُق الذي كان عند الإمام مالك هو نفسه الذي كان عند الصحابة ومن بعدهم من التابعين، وأمثاله من السلف الصالح وهو الذي نرجو أن يتخلق به علماء المسلمين ومفكروهم ومثقفوهم في هذا العصر، ولا يتعصبوا لآرائهم دون اعتبار لبقية العلماء المخالفين لهم في الرأي.
لقد كان من نتيجة هذا الخلق الكريم الذي تحلى به الإمام مالك أنه لم يصل إلينا خلاف بين المسلمين الأوائل إلا شيئا يسيرا، بينما نجد الخلاف شديدا فيما تلا ذلك من أجيال عندما دُوّن الحديث وبدأ من يرجح بعض الأحاديث على غيرها، وفقا لما اقتنع به من مفاهيم وقواعد.
د – إن الدارس للتأريخ ليدرك أن القبض لم يكن مشهورا في القرون السابقة كشهرته الآن، فلم يكن مشهورا في الأندلس، وكذلك في بلدان المغرب العربي:ليبيا، وتونس، والجزائر، والمغرب الأقصى، وموريتانيا. وكذلك مصر والسودان، حيث كان المذهب المالكي هو الغالب. ولا يزال معظم سكان هذه البلدان إلى وقت قريب، لا يرفعون أيديهم إلا مرة واحدة ولا يضعون اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة. لكن بعد انتشار المذهب الوهابي نظرا للإمكانيات المادية والقوة الإعلامية التي يملكها، دفع كثيرا من المنتسبين إلى المالكية والإباضية إلى الاقتناع بالقبض وذلك لجهلهم بأدلة مذاهبهم.
وقد كان للسياسة دور كبير في تسيير الفقه. فقد تبنّت الدول المتعاقبة على حكم بلاد الإسلام مذاهب معينة وحكمت بمقتضاها. فقد كان مذهب أبي حنيفة في المشرق، ومذهب مالك في المغرب من أوسع المذاهب انتشارا، لأنه أتيحت لكل من المذهبين دولة تتبناه وتنشره. وقد تبنت الدولة العباسية مذهب أبي حنيفة ومكنت له. فعندما تولى أبو يوسف رئاسة القضاء في عهد هارون الرشيد كان يولي القضاء لأتباع مذهبه، فاضطرت العامة إلى أحكامهم وفتاويهم. وانتشر المذهب الحنفي في مصر في زمن العباسيين، إلى أن استولى عليها الفاطميون، فنشروا المذهب الإسماعيلي، ومنعوا التفقه على مذهب أبي حنيفة، لأنه مذهب الدولة العباسية، وسمحوا بالتفقه على المذهب المالكي والشافعي والحنبلي، وقد عمل الأمويون في الأندلس على نشر المذهب المالكي، والأيوبيون على نشر المذهب الشافعي والسعوديون علي نشر المذهب الحنبلي. ورغم أن مذهب أبي حنيفة ومذهب مالك كانا من أوسع المذاهب انتشارا في السابق، إلا أنه في السنوات الأخيرة نتيجة لسهولة الاتصالات والإمكانيات المادية والإعلامية لبعض الدول والمؤسسات فقد انتشر المذهب الوهابي في كثير من بلاد المسلمين .
المبحث الرابع - شبهة مخالفة السنة
رغم أن أدلة الإباضية في ترك الرفع مستمدة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن أدلة تاريخية وعقلية كما ذكرنا. ومع ذلك نقرأ ونسمع من يقول إن الإباضية لعدم أخذهم بأحاديث الرفع هم مخالفون لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وينكرون الأحاديث الصحيحة التي رويت في البخاري ومسلم.
ولا أظن أنه يوجد مسلم في هذا الكون، من الإباضية أو من غيرهم يتعمد أن يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم أو عمله أو سنته لمجرد المخالفة، وإنما كل مسلم يعمل بما اقتنع به من رأي أو دليل أو يتبع مذهبا من المذاهب المعروفة.
وقد أنكر بعض الفقهاء والكتاب على الإباضية تركهم الأخذ بالأحاديث الواردة في البخاري ومسلم في مسألة الرفع وغيرها من المسائل الخلافية، وهم يدركون جيدا أن ترك الأخذ بالحديث ليس إنكارا للحديث ولا مخالفة للسنة، والفقيه الذي يرجح عملا على عمل أو حديثا على حديث إنما يفعل ذلك بناء على ما تواتر لديه من قول أو عمل، وما اعتمد عليه من أصول التشريع والاجتهاد الذي قد يختلف من فقيه إلى آخر، وينطبق هذا على كل مسألة اختلف فيها الأولون.
ولو تتبعنا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا عدة أحاديث رواها الإمام البخاري أو الإمام مسلم أو غيرهم وقد جرى العمل على خلافها عند أهل السنة. ومن أمثلة ذلك ما يلي:
صلاة السفر : فقد روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يقصر .وفي رواية (يصلي ركعتين) فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا. وفي البخاري أيضا عن أنس بن مالك (رض) قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة. قلت: أقمتم بمكة شيئا. قال: عشرا. وعنه أيضا قال: (صليت الظهر مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين) [1]. وذو الحليفة هو المكان الذي يحرم منه الحجاج من المدينة المنورة وهو يبعد عن المدينة مسافة قصيرة ومع هذه الأحاديث الصحيحة والصريحة نجد أن الذي جرى العمل به عند أغلب أهل السنة أن مسافة السفر أربعة وثمانون كيلومترا وأن السفر إذا زاد عن أربعة أيام جاز للمسافر أن يتم الصلاة. وهذا العمل يخالف ظاهر الحديث الصحيح المذكور ، ومع ذلك فلا نقول إنهم يخالفون السنة، لكن نقول أنهم بنوا حكمهم على روايات أو اجتهادات أخري.
صلاة التراويح : كانت إلى وقت قريب تصلي في المسجد الحرام وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة عشرين رغم تضعيف العلماء[2] للحديث المروي عند ابن أبي شيبة عن ابن عباس. أما الآن فهي تصلى ست عشرة وفي كلا الحالتين فإن هذا العمل يعتبر مخالفة واضحة لحديث صريح في البخاري ومسلم عن عائشة (رضي الله عنها) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة.[3]
صلاة الضحى: ففي مسلم عن عائشة(رض) أنها سئلت: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى. قالت: لا إلا أن يجيء من مغيبه[4]. وفي حديث آخر قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط وإني لأسبحها. وفي حديث ثالث سُئلت كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الضحى؟ قالت: أربع ركعات ويزيد ما شاء.[5]
فهذه الأحاديث مروية في صحيح مسلم وهي في موضوع واحد وهو صلاة الضحى ويبدو كأنها متعارضه، والمسلمون اليوم منهم من يصلي الضحى ومنهم من لا يصليها بناء على إحدى الروايات، ولم ينكر أحد على آخر فعله أو اتهمه بمخالفة السنة.
الشرب قائما: روى أهل الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائما كما رووا عنه أنه شرب قائما. ففي صحيح مسلم عدة أحاديث تنهى عن الشرب قائما منها حديث قتادة عن أنس (رض) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يشرب الرجل قائما. قال قتادة فقلنا لأنس فالأكل؟ قال: ذلك أشر وأخبث.[6] كما روي أيضا عن أبي هريرة (رض) قال: قال رسول الله : (لا يشربن أحد منكم قائما فمن نسي فليستقىء)، أي يتقيأ، وفي مقابل هذا رُويت أحاديث تقول بجواز الشرب قائما. ففي البخاري ومسلم عن ابن عباس (رض) قال: (سقيت النبي من زمزم فشرب وهو قائم). وفي الترمذي عن ابن عمر قال: (كنا نأكل على عهد رسول الله ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام). فمن الذي يخالف السنة هل الذي يشرب قائما أو جالسا؟ ولم نسمع أن مسلما اتهم آخر بمخالفة السنة لكونه شرب قائما.
هذه بعض الأمثلة العملية التي مما اختلف فيها الناس. ومسألة الرفع يجب ألا تخرج عن هذا الإطار وهو جواز الرفع لمن شاء أن يرفع وعدم الرفع لمن رأى أن عدم الرفع أولى. كما أنه إن شاء صلى الضحى أو تركها وله الخيار أن يصلى التراويح ثماني ركعات أو ست عشرة ركعة، أو عشرين أو أربعة وعشرين ، ولا يجب أن يوصف من فعل هذا أو ذاك بمخالفة السنة.
وينسحب هذا الحكم على كل مسألة خلافية لم يتفق فيها المسلمون في الصلاة كالجهر بالبسملة والقنوت وقراءة السورة في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر والتسليم وغيرها من المسائل الفرعية التي اختلف فيها الأولون.
وفي ظني أن اتهام الإباضية بمخالفة السنة لم يأت لتركهم الرفع أو عدم العمل بحديث معين وإنما هو أولا نظرا للجهل بأصول الفقه الإباضي ونتيجة لظروف تاريخية و سياسية قديمة تركت بصماتها في كتب عند أهل السنة.
ملاحـظـات وتعـليـقـات
مسألة الرفع كمسألة خلق القرآن شغلت علماء المسلمين الأوائل سنوات عديدة كل يحاول إثبات صحة رأيه. ومن أكثر المسائل التي كثر فيها الخلاف مسألة هل الرفع مرة واحدة أم عدة مرات؟ وقد علق أحد محققي سنن الترمذي على هذه المسألة بقوله" وقد جعل الحفاظ المتقدمون هذه المسألة – مسألة رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع - من مسائل البحث الخلاف العويصة، وألف فيها بعضهم أجزاء مستقلة، ثم تبعهم من بعدهم في خلافهم، وتعصب كل فريق لقوله، حتى خرجوا بها عن البحث إلى حد العصبية، والتراشق بالكلام، وذهبوا يصححون بعض الأسانيد أو يضعفون، انتصارا لمذهبهم، وتركوا – أو كثير منهم سبيل الإنصاف والتحقيق."[1]
وتأكيدا لما سبق، فبينما كنت أجمع المعلومات لهذا البحث قرأت بعض الأشياء الغريبة التي تتعلق بالخلاف في مسألة الرفع، فأحببت أن أذكرها هنا وأعلق عليها وأترك للقارئ أن يفهمها كما يشاء.
1- حرص كثير من المحدثين على إثبات أن الرفع أكثر من مرة أنه هو السنة التي يجب إتباعها، بناء على الحديث المروي عن ابن عمر (رضي الله عنه) الذي يذكر الرفع عند الركوع وبعد الركوع، لكنهم اصطدموا بحديث عبد الله بن مسعود الذي يقتصر على الرفع في التكبيرة الأولى فقط، وقد نال حديث عبد الله من النقد الرفع ما تجاوز النقد العلمي الموضوعي إلى اتهام عبد الله بن مسعود(رضي الله عنه) بالنسيان ، واستدل بعض العلماء بدليل النسيان ليثبت أن حديث ابن عمر الذي رواه البخاري أقوى من حديث ابن مسعود الذي رواه الترمذي، قال الزيلعي[2] في نصب الراية نقلا عن صاحب التنقيح: (ليس في نسيان ابن مسعود ما يستغرب، فقد نسي ابن مسعود من القرآن ما لم يختلف فيه المسلمون بعد، وهما المعوذتان، ونسي ما اتفق العلماء على نسخه مثل التطبيق، ونسي كيف قيام الاثنين خلف الإمام، ونسي ما لا يختلف العلماء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح يوم النحر في وقتها، ونسي ما لم تختلف العلماء فيه من وضع المرفق على الساعد على الأرض في السجود، ونسي كيف يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم" وما خلق الذكر والأنثى" وإذا جاز على ابن مسعود أن ينسى مثل هذا، كيف لا يجوز أن ينسى مثله في رفع اليدين)[3].
الحقيقة أن ما سبق من وصف عبد الله بن مسعود بالنسيان لأمر غريب وعجيب. وإذا صح هذا فهو يدل على مدى التعصب الذي بلغ إليه بعض العلماء في مسألة فرعية مثل مسألة الرفع. وإذا كان هذا قد قيل في عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فلا يستغرب أن ترد أقوال الإباضية أو غيرهم في أي مسألة من المسائل الخلافية.
إن الذي بلغنا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان من السابقين الأولين إلى الإسلام، وهو أول من جهر بالقرآن بمكة وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وبيعة الرضوان والمشاهد كلها. كما شهد معركة اليرموك بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحبه ويكرمه وهو خادمه وصاحب سره ورفيقه في حله وترحاله، وهو من كبار علماء الصحابة وحفاظ القرآن، فهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (مُلىء من رأسه إلى أخمص قدميه علما)، وقال فيه عمر بن الخطاب (رض) (وعاء مُلىء علما) وهو الذي يقول عن نفسه: (ما من آية في كتاب الله إلا وأنا اعلم متى نزلت وكيف نزلت وفيمن نزلت) فكيف يوصف بعد ذلك بنسيان عدة أمور منها المعوذتان وكذلك الرفع في كل تكبيرة في الصلاة. وهو أمر عملي يتكرر يوميا خمس مرات.
2- مما روى من أدلة الرفع ما نقله ابن حجر في فتح الباري عن الحاكم وأبي القاسم بن منده أن ممن روى الرفع العشرة المبشرون بالجنة كما قال أن شيخنا أبو الفضل (لعله يقصد شيخ بن حجر) تتبع من رواه من الصحابة فبلغوا خمسين صحابيا. ولكنه لم يذكر أسماءهم كما أنه لم يبين هل المقصود الرفع مرة واحدة أم عند المواضع الأخرى، وقال أيضا: وقد ذكر أيضا قول البخاري إن الرفع رواه سبعة عشر صحابيا. ولكن الإمام البخاري لم يذكر في صحيحه إلا رواية عبد الله بن عمر ومالك بن الحويرث رضي الله عنهم.
لكن الإمام البخاري صنف كتابا آخر بعنوان "رفع اليدين في الصلاة"[4]. ومع تشدد البخاري في نقل الأحاديث لدرجة أن صحيحه يعتبر من أصح الكتب، إلا أنه لم يلتزم في هذا الكتاب المنهج الذي التزم به في صحيحه من حيث صحة الأحاديث، فنقل فيه كل ما وصل إليه فيما يتعلق بموضوع الرفع، فاختلط فيه الصحيح والضعيف والمرفوع والمقطوع من الحديث. والسبب من تأليف الكتاب - فيما يبدو لمن يقرأ الكتاب - هو الرد على الحنفية الذين يقولون بأن الرفع مرة واحدة فقط.
وقد قام بديع الدين الراشدي بتحقيق هذا الكتاب، ونقل فيه قول البيهقي عن العراقي : أن الذين رووا الرفع من الصحابة بلغوا خمسين صحابيا. ثم جاء من تكلم في الرفع من بعد ذلك واستدل بأن الرفع رواه خمسين صحابيا منهم العشرة المبشرين بالجنة، فظن كثير من العوام أن هذه الروايات في صحيح البخاري.
والحقيقة أن دعوى الخمسين صحابيا الذي رووا الرفع تحتاج إلى إثبات، لأن الذي يرجع إلى كتب الحديث يجد أن مجموع أحاديث الرفع كلها في الكتب التسعة بلغت أكثر من مائة وخمسة وثلاثين حديثا منها الصحيح والضعيف والمكرر والزيادات والروايات المتشابهة. أما الأحاديث المشهورة في الرفع فرواتها من الصحابة – حسب ما وجدت - إثنا عشر صحابيا [5] , ليس فيهم ممن عُدّ من المبشرين بالجنة إلا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وهذا ما جعلنا نتساءل عن صحة قول من يقول إن أحاديث الرفع رواها أكثر من خمسين صحابيا منهم العشرة المبشرين بالجنة. فلم أجد في كتب السنة المشهورة – على حد علمي - أي حديث من أحاديث الرفع رُوي عن أبي بكر الصديق، أو طلحة بن عبيد الله، أو الزبير بن العوام، أو سعيد بن زيد، أو سعد بن أبي وقاص.
أتمنى أن يقوم أحد الباحثين بتحقيق أحاديث الرفع المذكورة في كتاب رفع اليدين للبخاري، ويبين حقيقة هذه الدعوى من عدمها.
خـلاصة البـحـث
أرجو أن أكون قد وفقت في إبراز بعض من أدلة الإباضية في مسألة الرفع الضم، وبناء على ما تقدم، يمكن أن نخلص إلى ما يلي:
1- إن ترك رفع اليدين في الصلاة وإرسالهما هو الرأي الذي استقر عليه فقهاء الإباضية والذي جرى العمل به منذ القرن الأول الهجري حتى وقتنا الحاضر، ولم ينقل عن علمائهم الأوائل الاختلاف فيه. وهذا الرأي ليس جديدا ، فقد كان من قبل ظهور المذاهب الأربعة، ومن قبل البداية في تدوين الحديث أو تصنيفه ومن قبل أن يختلف المسلمون في هذه المسألة أو غيرها كما أن الصلاة بدون رفع اليدين صحيحة بإجماع الأمة.
2-إن الإباضية عندما لا يرفعون أيديهم في الصلاة، لا يقصدون مخالفة السنة، كما يظن البعض وإنما هو إتباع للسنة بناء على ما صح عندهم من أحاديث واقتداء بأئمتهم المتقدمين ، وعلى أدلة عقلية وتاريخية، وأخذا بمبدأ الاحتياط والخروج من الخلاف دون الإخلال بأركان الصلاة المجمع عليها.
3- الإباضية لا ينكرون على من يرفع، أو يقبض، ولا يعتبرونه مبتدعا ولا مخالفا للسنة ولا يمنعون الصلاة خلف من يرفع، ولو ثبت لديهم أن الرفع من السنن المؤكدة التي داوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم لكانوا أحرص الناس على العمل به. فمن رأى ترك الرفع والضم فصلاته صحيحة بالإجماع، ومن اطمأن إلى الرفع فرفع يده في التكبيرة الأولى أو غيرها أخذا بإحدى الروايات، فصلاته صحيحة كذلك. وكلاهما مأجور إن شاء الله تعالى.
4- التعامل مع المسائل الخلافية كمسألة الرفع أو الضم أو غيرهما من المسائل الأخرى يجب أن يكون من منطلق البحث العلمي الموضوعي الهادف والنية الخالصة من أجل الوصول إلى الحق بعيدا عن الاتهامات بمخالفة السنة أو الابتداع في الدين.
وأخيرا، أسأل الله تعالى أن يجمع شمل المسلمين على الخير، و يعينهم على مجاهدة أنفسهم والشيطان، وأن يبعد عنهم الخلاف وأهله والشر وأهله إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وارنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، وصل اللهم وسلم وبارك على رسولك الأمين وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
المصدر:ـistiqama