أقسام البربر

Icon 07وكان البربر شعبا عظيما وأمة كبرى، كثيرة القبائل والأفخاذ. وتنقسم الأمة البربرية الكبرى إلى قسمين عظيمين، كل قسم يحتوي على قبائل كثيرة. تنقسم إلى برانس وبتر تشتمل على قبائل كثيرة أكبرها هي هوارة، وكتامة، وزواوة، وصنهاجة، وأوربة، ومصمودة. والبتر أكثر عددا من البرانس فقبائلهم كثيرة، وكل قبيلة تتفرع منها قبائل مختلفة الأسماء. واكبر قبائل البتر هي لواتة، ونفوسة، ونفزاوة، ومزاته، وزناتة، ولماية، ومكناسة، ومطغرة.

وكانت مواطن اغلب القبائل البترية في وسط المغرب وجنوبه، فلم يكن منها في السواحل إلا القليل. وكانت لهم الجبال والهضاب يعتصمون بها. واغلب الثورات التيانفجرت على الرومان والوندال والروم المستعمرين كانوا هم الذين يقومون بها. وقد انتشر الدين المسيحي في سكان المدن منهم ولكن على المذهب الدونتوسي البربري الذي يحمل روح المسيحية الحقيقية، وهو الدعوة إلى العدل والإنصاف والإخاء، كما تأثروا بالحضارة البونيقية تأثرا كبيرا، واقتبسوا من الحضارة الرومانية ما يوافق مزاجهم.

وسكان الجبال والهضاب وجنوب المغرب في الصحراء لم يختلطوا كثيرا بالرومان ولم ينغمسوا في مفاسد الحضارة فتفسد أخلاقهم، فضلوا اقرب إلى البداوة يمتازون بقوة الأجسام، ومتانة الأخلاق، وجرأة الفؤاد. إنهم أنياب المغرب يبرزها إذا ادلهمت الأيام. والبتر هم الذين اتعبوا الفاتحين، وظلوا عقبة كأداة في سبيل المسلمين. والبتر أيضا اقرب إلى المغرب بطبيعتهم البدوية وأخلاقهم. فان الذين اعتنقوا الإسلام في برقة، وتفتحت له قلوبهم في جنوب افريقية، وانخرطوا في الجيش الإسلامي ينصرونه ويؤيدونه، كان اغلب هؤلاء من البتر.

أما البرانس فاغلبهم يسكنون السواحل، وهي موطن الرومان والروم، ومحل الحضارة والمدينة، فتحضروا وشاركوا في بناء المدينة التي أقامها الرومان والروم في المغرب، بل اقتبس الرومان أنواعا من المدينة منهم لما احتل بلادهم، لأنهم كانوا اسبق إلى الحضارة من الرومان؛ فلولا ما كانت ترفل بلادهم من حضارة ونعيم، وما كانت تغض به من خيرات وملذات ما طمع فيها الرومان.

ان البونيقيين هم أساتذة البربر في الحضارة، وهم الذين فتحوا عيون البربر، واخذوا بأيديهم إلى طريق الحياة، فنهضوا في القرن الثالث قبل الميلاد فأسسوا ممالكهم الكبرى التي ورثت الحضارة البونيقية، فصار المغرب بها متجه الأنظار لعمرانه وسعادته ورقيه.

وكان البرانس سكان السواحل قد اختلطوا بالرومان فاثروا بهم فضلو متحضرين. وقد انتشرت في سكان المدن منهم المسيحية على المذهب الدونتوسي. وكانت منزل هوارة من البرانس على الساحل طرابلس من سرت إلى مدينة طرابلس، وكانت عاصمتها هي مدينة لبدة في شرق في طرابلس، وأثارها الموجودة إلى الآن دليل على الدرجة العظمى التي كانت عليها والبربر في الحضارة والتقدم. أما منازل كتامة فعلى ساحل قسنطينة، منة سكيكدة إلى بجاية، ومنازل زواوة في بال القبائل من غرب بجاية إلى شرق مدينة الجزائر، ومنازل صنهاجة من شرق مدينة الجزائر إلى مليانة.

أما أوربة فمن شمال تاهرت إلى وهران،ولها منازل أيضا في غرب فاس مناه «سقومة » قلعة أوربة ومدينة وليلي،أما مصمودة فلها جبالها في غرب مدينة مراكش. ومع كل قبيلة من هذه القبائل في هذه الأمكنة فصائل من القبائل الأخرى تحل معها وتعيش في ديارها،وإنما الجمهور والكثرة لتلك القبيلة.

وكان المغرب في نظر البربر وطنا واحدا لا يتجرأ. فمن غرب الإسكندرية إلى الاطلانطي وطن واحد، فأينما حل البربري فهو وطنه وبين قومه، ولا تكمش ولا انفصال. وكان البربر امة واحدة متماسكة وان تعددت قبائلها.

وكان البرانس أكثر حضارة، والمسيحية قد انتشرت فيهم أكثر، واختلاطهم بالروم كان اشد. فوجد الروم في مزاج الحضارة وفي المسيحية ما يجذب البرانس إليهم، فصاروا يتملقون رؤساءهم، ويتقربون إلى أمرائهم ليجعلوا من البربر الحلفاء الأقوياء ليستطيعوا الوقوف في وجه المسلمين الفاتحين. وكان الروم يبثون دعايتهم المسمومة في الإسلام والمسلمين، ويصورون العرب للبربر على إنهم كالمستعمرين، لا تدفعهم إلا بطونهم وجشعهم لغزو البلدان، وأنهم عتاة مستبدون لا يحملون أي خير للبربر.

وكان البربر سيما البرانس في المغرب الأوسط قد استرجعوا حريتهم، وتكونت لهم إمارات يديرها رؤساء منهم، وآلوا ان يقارعوا ويهزموا كل قوة تحدث نفسها باستعبادهم واحتلال بلادهم.

وقد استطاع الروم ان يصوروا للمغرب الأوسط والأقصى الإسلام والمسلمين كما أرادوا فآمن البربر بسمومهم لجهلهم بالإسلام والمسمين، لأنهم بعداء عن مركزهم في القيروان. واعتقد البربر ان المسلمين أعداؤهم، وان الإسلام عقيدة تناوئ دينهم المسيحي، وان أبا المهاجر قد جاءهم مجئ الروم والرومان يحمل إليهم الفقر والجهل والعبودية فثارت ثائرتهم واستعدوا للجلاد.

وكانت الزعامة في المغربين الأوسط والأقصى لقبيلة أوربة كثرة عددها وغناها وحضارتها ومناعة مواقعها، وكان رئيسها كسيلة بن لمزم الأوربي. وكان كسيلة قوي الشخصية، ذكي الفؤاد، غيورا على وطنه، وكان البربر يجلونه ويحبونه، وكان نصرانيا متمسكا بدينه، وكان لا يعرف حقيقة الإسلام والمسلمين، فاستطاع الروم ان يوحوا إليه ما أرادوا في الإسلام والمسلمين، فرآهم عدوا لدينه ووطنه، ورأى أبا المهاجر في ميلة فعلم انه لابد ان يسير لافتتاح المغرب الأوسط والأقصى، فذهب في المغربي الأقصى والأوسط يدعو البربر لمكافحة العرب، والاستعداد لحربهم وإجلائهم عن البلاد. فتحمي البربر بثورة أميرهم كسيلة فلبسوا لأمة الحرب واستعدوا للقراع، فتجمع لكسيلة جيش كثيف من البربر والروم فرنا إلى المشرق مستعرا يرقب مسير أبي المهاجر أو يسير هو إليه. فسمع أبو المهاجر باستعداد كسيلة فسار إليه. وكان كسيلة قد عسكر بتلمسان، وارى انها عاصمة إمارته فوصل أبو المهاجر بجيشه فحط رحاله حول تلمسان، فالتقى الجيشان جيش المسلمين وجيش كسيلة فوقعت معركة عنيفة سقط فيها قتلى كثيرون من الطرفين، ثم انزل الله نصره على المسلمين، فهزموا جيش كسيلة فولى الأدبار، واسر كسيلة فحمل إلى أبي المهاجر فأحسن إليه أبو المهاجر وقربه وعامله معاملة الملوك. وكان أبو المهاجر معجبا بشخصية كسيلة، وبذكائه، ودهائه، ومكانته في البربر. فعرف انه إذا اسلم كسيلة فسيكون المفتاح الذهبي الذي يفتح قلوب البربر في المغرب الأوسط والأقصى لدين المصطفى. فحدث كسيلة عن الإسلام والمسلمين بما عرفه حقيقتهما. وكان كسيلة ذكيا طموحا مخلصا لقومه لا يريد لهم إلا الصلاح، فعلم ان الإسلام هو دين السعادة والقوة والحياة وخير الدارين، وان العرب المسلمين هم الإخوة الأصفياء الذين يسعدون البربر ويأخذون أيديهم إلى النجاح، فآمن كسيلة بما دعاه إليه أبو المهاجر فأصبح من المسلمين، واغرم بالعربية فصار يتعلمها، وأعجب بجمال الإسلام فيس سيرة المسلمين فأحبهم، وأصبح أبو المهاجر وصحبه هم خاصته وأولياؤه، وأحب أبو المهاجر كسيلة ورجا منه خيرا كبيرا للإسلام. فشمر كسيلة لمناصرة الإسلام والمسلمين، فدعا قومه البربر للدين الحنيف، وافهمهم ما جاء به المصطفى عليه السلام، وانه النور والحياة وخير الدارين، والفت نظرهم إلى جمال الإسلام في سيرة المسلمين، واراهم الفرق بيتهم فغي رحمتهم وإيثارهم وعملهم للناس وبين الروم الجشعين. وكان البربر قد تفتحت قلوبهم لأبي المهاجر والمسلمين فأحبوه لما أطلق رئيسهم كسيلة من الأسر، وأحسن إليه وعظمه وبجله، والبربر جنس كريم معتد بنفسه، يملكه من يحترمه ويعرف له مقامه، فاقبل البربر على الإسلام، فانتشر فيهم انتشار العطر القوى في الساحة، والنور الساطع في المكان، وأصبح البربر أحباء العرب يزدادون تقاربا على الأيام ليصبحوا شعبا واحدا يصل بينهم الإسلام، وتلحم بينهم العربية. فقرت عين أبي المهاجر بما رأى، وازداد بقينا بان السيف وحده ليس وسيلة لامتلاك الشعوب، فرجع إلى مقره قريبا من القيروان، وأقام «بدكرور » يراقب الأمور، ويحبط دسائس الروم، ويعمل لإزالتهم من المغرب،وهو على استعداد لكل من يريد مناوأة المسلمين فينهض إليه، أما إذا سكن فيتركه لان نور الإسلام لا يسكن، فهو يسير سيره، فلابد ان يصل إليه فيغزو قلبه، فيصبح للمسلمين يغير دماء، ويمسى جزءا منهم يورثهم النماء. وكان أبو المهاجر في المغرب بلينه وسياسته، وبإلحاحه عليهم بالدعاية كالشمس التي تخيم على الثمار فتلح عليها بالأنوار حتى تداخلها حلاوة النضوج وان تكونت فيها حشرة تفسدها قتلتها !

ودام الأمر على ذلك والإسلام كنور الصباح رويدا رويدا فيسير إلى الضحى فيعم المغرب، ويملأ قلوب البربر كلهم، حتى طلع الغمام، وهبت العواصف، فانهدم كثير مما بناه أبو المهاجر. لقد عزل أبو المهاجر وولي عقبة فجاء وهو مغرم بالقتال، فلم يتبع سياسة أبي المهاجر الحكيمة، وظن ان البربر امة هرمة كعلوج الروم يرضخون له سيف، ويستكينون له بالقوة، فآثر العنف العاصفة على اللين الحكيم فثارت البلاد، وانفجر المغرب، واصح الأصدقاء أعداء. اشترى قلوب البربر فكانت لمحمد، وثنى بأعنة المغرب فابتدأ يتجه إلى القبلة، واسكت النواقيس في كثير من النواحي فجلجل فيها الآذان، فلو دام لفتح البلاد كما يفتح الحب أفئدة العباد، بدون دماء تهرق، ومعامع تشغل المسلمين.

رحم الله أبا المهاجر فانه على قوته وبطولته كان على الرفق الذي حث عليه الرسول لما قال: ما دخل الرفق أمرا إلا زانه، وما داخل العنف شيئا إلا شانه. وكانت ولاية أبي المهاجر على افريقية في سنة 55 هـ. وعزله في سنة 62 هـ فمدته في المغرب سبع سنين ولم يذكر المؤرخون عدد جيشه فلا بد وان يكون أبو المهاجر قد قدم بقوة جديدة عند ولايته فيكون جيشه أكثر من عشرة آلاف.

-----------------------

 المصدر : محمد علي دبوز  تاريخ المغرب الكبير ج2  ص59-63

Tags: الهوية, تأريخ, حضارة, الإباضية, قيم, سياسة, إجتماع, تراث, سياحة, عادات تقاليد