عادات مزاب لَمْزَن
عادات مزاب لَمْزَن
إننا نستدعي التاريخ ونستحضره أحيانا لينفخ فينا روح العمل والاستمرار، ويفكَّ عنَّا قيود المستحيل إلى سعة الممكن والقابل للتحقق، لكن لا ينبغي أن نستهوي النفخ ونمتهن التفاخر والتعظيم ونحن نغط في سبات عميق، ثم نستيقظ على واقع مرير وصادم.
إن من العادات الحسنة التي لم يبق لها أثر للأسف على أهمِّيتها، ما نسمِّيه بـ" لَمزَن"، و"لمزَن" في اللغة هو السَّحاب الثَّقيل، ووجه الشَّبة بين هذه العادة والاسم هو لحظة الرحمة والخير بعد مواسم المشقة والعذاب.
عادة "لمزَن" فيما يروي كبار السِّن تُقام لأسباب عديدة مثل: نهاية فتنة أهلية، أو نزول الغيث بعد سنوات القحط والجفاف، أو نهاية وباء فتك بأهل المدينة...، فهي أسباب تشترك جميعا في نهاية ضرٍّ وضرر وقع أهل المدينة، لتأتي هذه الاحتفالية من أجل إعادة التأهيل النفسي، وشحذ الهمم من جديد، ونفخ الأمل في الحياة بعد أعوام من الحزن والدموع على موت المئات منهم بسبب فتنة أو جفاف أو وباء.
يستدعي شيخ المدينة (شيخ الحلقة) لمْقَاديم (وهم كبار الصُّفوف)، ويتفقون على يوم محدد لإقامة "لمزَن".
في ذلك اليوم المشهود يخرج جميع أهل البلد إلى مكان واسع خارج أسوار المدينة (مثال: كانت تقام في تارجا ن بوشمجان بالنسبة لقصر تغردايت)، ويُحضِر كلُّ واحدٍ منهم ما تيسَّر له من الطَّعام، ويتقدَّم إلى "إمنَّاسن نُ مودي" ويصرخ بأعلى صوته بما يشاء، ويرقص على إيقاع إشمجان الخاص به ( وهذا الإيقاع الخاص بكل فرد يتم اكتشافه من قِبل أهله منذ أن كان صغيرا)، ثم يلقي بصدقته في "إمنَّاسن"، وهكذا يستمر النشاط والحيوية وإخراج المكبوتات طيلة الصَّباح، في غياب كلِّي للعزابة وإروان، الذين يقصدون المكان بعد العصر، ليقرؤوا القرآن، ويقدموا بعض التوجيهات الإيمانية، ويشكروا الله على الفرج بعض الضَّيق، ويتم بعدها توزيع الصدقة على الجميع، ليتفرقوا مع حلول المغرب.
ويُذكر أن تلك الاحتفالية تعيد الروح والأمل لأشخاص وصلوا حدودا قصوى في الانهيار النفسي بسبب الأزمات المتلاحقة، حتى أن بعضهم يحملون إلى المكان في الفراش، ثم يعودون إلى منازلهم على أقدامهم.
وآخر "لمْزَن" حدث في تغردايت كان سنة 1963، ويبدو أن له علاقة بخروج المستعمر الغاشم واستعادة الاستقلال، وشروق شمس الحرية حينها.
عادة"لمزَن" وغيرها من العادات والأنظمة الكثيرة جدا تجعلني أقف على ذكاء الأوائل رحمة الله عليهم، وعلى حلولهم الواقعية البعيدة عن المثالية المزعومة، وعلى كفاحهم المستمر لعمارة هذه الأرض الجرداء، وتمسُّكهم بها رغم التهديدات والتحديات، بدل التفكير في الاستسلام ورفع الراية البيضاء أمام نوائب الزمن وآفات الدَّهر التي أهلكت أمما كثيرة فصارت أثرا بعد عيْن.
بقلم Brahim Ramdane
Tags: عادات تقاليد