رفع اليدين وقبضهما في الصلاة
جواب حول مسألة رفع اليدين وقبضهما في الصلاة
كتب أحد الفضلاء:
جوابي لأحد الإخوة حول رأي الإباضية حول مسألة رفع اليدين في الصلاة، وشكواه من مضايقات في صلاته من بعض المتعصبين،
هو مجرد جواب مقتضب لمن أراد الاستفادة،
ومن أراد التفصيل فعليه بالكتب
""وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أخي الكريم الفاضل...
أخي الكريم لقد اختلف المسلمون في مسألة رفع اليدين في الصلاة على عدة أقوال ووضعيات؛ فمنهم القائل برفعها عند كل تكبيرة في الصلاة، ومنهم القائل بقصر ذلك على تكبيرة الإحرام والركوع والرفع منه، وقائل يقتصر على الرفع في تكبيرة الإحرام فقط، وقائل لا يرى مشروعية رفع اليدين كليا وفي جميع المواضع، وذهب إلى القول الأخير الإباضية وبعض الزيدية ورواية عن الإمام مالك.
ولا ريب أن هذه الأمور من الفرعيات الخلافية التي لا ترقى حتى إلى واجبات الصلاة، فضلا عن أركانها، وقد نقل الإمام النووي الإجماع على عدم وجوب الرفع في أي موضع في الصلاة (شرح النووي على مسلم، 4/ 95)، كما نقل اتفاق جمهور المذاهب الأربعة السنية على أن رفع اليدين من المستحبات في الصلاة (نفس المرجع)، ولا ريب في ذلك فلو كان الرفع من أساسات عمود الدين التي لا يتم إلا بها، لما تم حصول اختلاف النقل العملي حول تلك الوضعيات، تماما كعدم اختلاف النقل العملي على وجوب الركوع والسجود وعدد الصلوات وركعاتها، ولكن هذه الفرعيات ثبتت بروايات آحادية قد تكون حجة لمدرسة فقهية ولا تكون حجة على أخرى، وهي روايات تم تدوينها في عصر لاحق، فأقوى رواية آحادية تحكي مشاهدة ابن عمر لرفع النبي عليه الصلاة والسلام ليديه في الصلاة كانت بسند خماسي ودونت في القرن الثالث بعد قرون من صلوات المسلمين.
واتفاق النقل العملي على أهم أركان الصلاة وأعدادها ومواقيتها يشكل الأرضية المشتركة القطعية بين المسلمين في هيئة الصلاة، ولذلك اعتبر بعض العلماء أن حديث "المسيء صلاته" (وميزته أنها رواية فيها تعليم مباشر من النبي للصلاة ولا تحكي مشاهدات) – اعتبروه الأساس لبيان واجبات الصلاة وأن غيرها سنن، إلا الواجبات المجمع عليها ولم تذكر في الرواية (النية والقعود الأخير والترتيب)، وخلاف ذلك كله فرعي مختلف في وجوبه حتى التشهد والقعود بين السجدتين والتسبيح في الركوع والسجود فضلا عن الرفع والضم والاستعاذة. (راجع مثلا تحقيق الإمام النووي في هذه المسألة في شرحه لحديث المسيء صلاته في شرحه على صحيح مسلم 4/107)، فالتفريق بين الواجبات التي اتفقت عليها الأمة والسنن المختلف فيها مهم للوقوف على روح الصلاة الحقيقية، وهو مطلق الخضوع المتمثل في الركوع والسجود والطمأنينة والخشوع والتبتل، ثم يأتي الشكل النهائي للصلاة أمر خلافي تؤصله المذاهب حسب مناهجها في التعامل مع الأثر والرواية والعمل الفقهي، ولا يؤثر ذلك على جوهر الصلاة وحكمتها وروحها.
وبما أن هذه المسألة خلافية لم يرد فيها نص قاطع ولا متواتر متفق على تواتره ولم يتفق النقل العملي على صورة واحدة فيه؛ فإن لكل مدرسة منهجها في بناء منظومتها الفقهية، ومنهجها مع التعامل مع الآثار والروايات الواردة عن النبيء صلى الله عليه وسلم، ورغم اشتهار منهج أهل الحديث إلا أنه ليس منهجا فقهيا يحاكَم إليه جميع المدارس الإسلامية، وإنما هو مجرد آلية لترتيب درجة صحة الأخبار وفقا فرضيات فنية وضعها المحدثون وجميعها ظنية ترجيحية، أما مناهج الفقهاء في الاستنباط فلم تكن جميعها على شاكلة واحدة في التعامل مع الرواية وحتى عند المذاهب السنية نفسها، فالتعامل المنهجي للإمام مالك وأبي حنيفة مع الرواية يختلف عن تعامل ابن حنبل والشافعي، فالمشهور مثلا عن الإمام مالك تقديم القياس وعمل أهل المدينة على الرواية الآحادية، وهو منهج يشبه منهج المدرسة الإباضية في تقديم الأثر المتفق عليه المنقول عبر حلقات علماء المذهب على الرواية الآحادية، لدرجة الموثوقية في نقل العلماء وحلقاتهم العلمية، وخاصة فيما من شأنه الاشتهار كمسائل الصلاة، لهذا ليس غريبا أن يكون رأي الإمام مالك أقرب الآراء في مسائل الصلاة إلى الإباضية. ومن قبيل هذا المنهج عند الإباضية في التعامل مع هذه المسائل المشتهرة نجد مثلا في مدونة أبي غانم حوارا منهجيا ظريفا بين الإمام أبي عبيدة وإمام المذهب جابر ابن زيد حيث إن أبا عبيدة سأل الإمام جابر بن زيد عن مشروعية القنوت فأجابه الإمام: الصلاة كلها قنوت، فقد قال الله تبارك وتعالى: "أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً" فالصلاة كلها قنوت. فقال أبوعبيدة: يا أبا الشعثاء؛ ليس عن هذا أسألك، ولكن إنما أسألك عن الذي يفعل هؤلاء بعد الركوع، يدعون ويهللون وهم قيام. فقال الإمام: هذا أمر محدث لا نعرفه ولا نؤثره عمن مضى من هذه الأمة" اهـ فكان الدليل والمنهج أن لم يسأل عن الرواية التي يعتمدونها، وإنما كان واثقا من أن من احتك به من السلف لا يفعلونه رغم كونه أمر في الصلاة وهي عبادة يومية مشتهرة.
فقد كان تأسيس حلقات العلم عند الإباضية منذ القرن الأول وكانت الطريق التي ينتقل عبره العلم ويسمى هذا عند الإباضية بنسب الدين، وأسبقية استقرار تلك الحلقات الفقهية على عصر التدوين يجعل الثقة بنقل العلماء للفقه أكبر عندهم من الرواية ، اللهم إلا ما كان فروعا لم يشتهر فيه نقل فقهي متفق عليه عن حلقات الأوائل، هنا لا يجد الإباضية حرجا من الاستئناس بمختلف الروايات ويعتبرون ذلك من قبيل الاجتهاد والنظر، وهم على اختلاف في ذلك على الخلاف المعروف في قرب العلماء وبعدهم من الرواية أو الرأي.
كما نجد أن بعض علماء الإباضية الأقدمين اجتهدوا في تخريج هذه المسألة على التخريج الروائي؛ فاعتبر الإمام ابن بركة مثلا أن ما أخرجه الإمام الربيع (وورد عند مسلم وغيره) عن جابر بن سمرة قال: «خرج علينا رسول الله فقال: مَا لِي أراكم رافعي أيدِيكم كأنها أذنابُ خَيْلٍ شُمسٍ؟ اسْكُنُوا في الصلاة" أنها رواية محورية وتُحمل على النهي من رفع الأيدي في كامل مواضع الصلاة لعموم السبب وهو السكون في الصلاة، أما القائلون بالرفع فيقصروها على التسليم ربطا برواية أخرى في التسليم، وللمتأخرين كتابات في البحث الروائي لهذه المسألة على منهج التصحيح والتضعيف ولست أرى لها داعيا، أرى أن التركيز على بيان المنهج أولى وأوفق.
وعلى كل حال هي مسألة من الفروع الفقهية الكثيرة التي اختلفت حولها المنظومات الفقهية، ولا تأثر في ركن من أركان العقيدة ولا أركان العمل ولا أركان الأخلاق، فالصلاة لم تشرع إلا للتقرب لله تعالى وذكره للمداومة على طهارة النفس، فتكون تلك الصلاة وقاية عن الغفلة وأهواء النفس "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر".
أما مشاكسة بعض المتمسلفين للمختلفين معهم في هذه المسائل فهو أمر ليس بالجديد ولا بالمحصور في هذه المسألة، ولا بالمحصور بالإباضية، فالتاريخ طافح بتعصبهم وتشويشهم على الخلق ولم يأمن من سوء فعالهم مذهب، ولم يسلم من مضايقاتهم عالم ولا عامي إلا من رحم الله، فديدنهم التمسك بالصغائر والفروع ولو هدموا العظائم من حسن الأخلاق وحكمة الموعظة ووحدة الصف، وأنا لا أستبعد هذا الصنيع منهم في هذه المسألة بالضبط، فقد كانت ولا تزال شعارا لهم، فلقد أشار الإمام الذهبي في سيره إلى مسألة الشعار هذه: “كَانَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ يَسْكُنُ سِكَّةَ الدَّهْقَانِ، وَكَانَ جَمَاعَةٌ يَخْتَلِفونَ إِلَيْهِ، يُظْهِرُونَ شِعَارَ أَهْلِ الحَدِيْثِ مِنْ إِفرَادِ الإِقَامَةِ، وَرَفْعِ الأَيدِي فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ"، ومن طبيعة الشعار محاولة إظهاره والمبالغة في ذلك، حتى إن الواحد منهم ليتطرف في الرفع والضم وكأنك تصلي ضمن كتيبة من المقاتلين لا صفا من المخبتين الخاضعين المتذللين لرب العزة، ولا أعرف كيف يتذوقون الخشوع مع ذلك الانقباض المبالغ فيه.
نسأل الله تعالى حسن الخشوع والقرب منه، ونعوذ به من التطرف والتعصب والتنطع والتشويش على عبادة الناس وصلواتهم.
هذا ما تيسر لي في هذه العجالة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ""