أسباب انقراض الدولة البربرية الكبرى

أننا إذا نظرنا إلى عمر الدولة البربرية الكبرى التي أنشأها نارفاس وكانت عاصمتها قرطة لا تعجب  لموتها. فهي قد استوفت عمرها، وعاشت ما يعيش أمثالها من الزمن لقد عاشت نحو ثلاثة قرون. ولكننا إذا نظرنا إلى شبابها وقوتها أيام زوالها، نعجب لذلك ونحكم بموتها سريعا. ان فيها من الطاقة والشباب ما يمسكها في الحياة قرونا أخرى من الزمان. ان الهدوء والهناء الطويل، والانغماس في الملاذ والشهوات، والركون إلى الراحة والكسل، هذه العلل الفتاكة التي تورث الهرم للأمم، وتصيبها بكل الأمراض فتلقى حتفها؛ ان هذه العلل لم تصب بها الدولة البربرية. ان كل ما ظفرت به من الهدوء والهناء إنما هو في أول عهد مصينيسا ووسطه. وكان مملوءا بأعمال الإنشاء والتعمير، فلم تركن الدولة إلى الراحة، ولم تنغمس في الملاذ والشهوات. فدامت في شبابها، بل ازدادت شبابا وقوة بما أسبغ عليها مصينيسا من علم وإصلاح.

وفي آخر عهد مصينيسا دخلت في حروب طاحنة مع البونيقيين وهذه الحروب أرهفت قواها واذكت شبابها، ومنعتها من الضعف الذي يصيب الأمم الهانئة الهناء الدائم. ثم دخلت الدولة في عهد الهناء والهدوء في عهد مصيبسا. وكان خيال العدو الجديد وهو الرومان المستقرون في افريقية يرهف قواهم، 109 ويمنعهم من الغفلة والنوم والإخلاد إلى الراحة. فشمروا عن سادهم فازدادوا قوة، واستعدوا للعدو الجديد.

وجاء عهد يوغورطة. فكان كله عهد نضال وحروب. وهو ما حفظ شباب الدولة، وزادها قوة وحيوية. ثم اتصلت حروب الدولة مع الرومان إلى وفاة يوبا الأول. ان هذه الحروب التي خاضتها الأمة، والعدو القوي الذي يجاورها جعلها تتمسك بأسباب القوة والشباب فلم تهرم، ولم تتصدع تصدع البنيان الذي يتداعى للسقوط. فلو تركت هذه الدولة لعاشت مدة طويلة من الزمان حتى تستوفي كهولتها وشيخوختها، ولكنها احتضرت، وقصفت، وفروعها ممتلئة بالزهور، ريانة يغص جذعها وغصونها بالحيوية والطاقة الكبيرة. ولكن ما هي الأسباب التي جعلت هذه الدولة تلقى حتفها في قوتها وشبابها؟

والقوة الحربة. لقد كانت أشجع من الرومان، كثيرة العَدد والعُدد. وقد صارعها الرومان طويلا فلم يصرعوها. ان في شجاعة أبنائها، وثباتهم، وفي مناعة جبالها وصحرائها التي يستطيعون بها حرب العصابات، ما يجعلها تتغلب على الرومان وتدحرهم، وتطهر المغرب منهم لو اتصلت تلك الحروب. ولكن الدولة البربرية الباسلة لا تشتبك في حرب عنيفة مع الرومان إلا ويضربها جيرانها من خلفها، ويقيدونها للرومان فيتغلبون عليها.

فهذا يوغورطة يؤسره للرومان بوكوس الأول،وكذلك يرباص قتله جيشه، ويوبا الأول ضربه أبناؤه من خلفه فقصموا ظهره. وقد كاد يهزم بوليوس قيرص، ويملك افريقية، ويظهرها من الرومان، وبسد باب المعرب في وجوههم. فلو ترك يوبا لقضي على الرومان.

وكذلك يوغورطة لو بقي فواصل حرب العصابات على الرومان لهزمهم، ولكن حسد الجيران وجبنهم وأطماعهم جعلهم يطعنون الدولة البربرية من خلفها ويصرعونها للرومان.

ان الذين طرحوا الدولة البربرية أرضا بغدرهم، ثم جثم عليها الرومان فأزهقوا روحها إنما هم البربر : بوكوس الأول وأبناؤه. فلو اتحدوا معها وحفظوا ظهرها لانتصرت على الرومان، فينجوا المغرب من سباع البحر وجراد روما الذي امتص حياته وجرده من نضارته؛ وتعيش الدولة البربرية الكبرى، وتعيش معها دولة بوكوس الأول وأبنائه، أو تتحد مع جارتها فتصير دولة واحدة من غرب الإسكندرية إلى المحيط الأطلسي، كما تمنى مصينيسا وكل الأحرار المخلصين في المغرب.

لو اتحد المغرب في الزمن القديم فكان دولة واحدة ما استطاع الرومان التغلب عليه. ولو كان متحدا في القرن الثالث عشر الهجري ما استطاع أحفاد الرومان اللاتينيون استعماره والتغلب عليه. وهكذا لا يزال المغرب ضعيفا يتعرض لتسلط الأعداء ما لم يكن دولة واحدة متماسكة على النظام الفدرالي الذي يصلح به. إذا تحقق هذا للمغرب، فانه يرفع رأسه، يكون قوة كبرى يلوذ بها الإسلام والمسلمون، ويجدي الأمة الإسلامية اكبر الجدوى.

وكانت نشأة الدولة البربرية في سنة 240 ق.م. أو قبل ذلك، وزوالها وحكم الرومان للمغرب كله حكما مباشرا في سنة 40 م. فعمرها قرنان وثمانون سنة أو أكثر.

لقد استطاع الرومان ان يمسكوا بخناق الدولة ويزهقوا روحها، ويقطعوا أوصالها في سنة 46 ق.م. لما هزموا يوبا الأول بالخديعة والدس، وتسلطوا على بعض أجزائها فحكموها حكما مباشرا. وبقيت الأجزاء الأخرى فظلت على الاستقلال الداخلي إلى سنة 40 م.

ان عمر الدولة البربرية كدولة مستقلة استقلالا تاما لا سلطان للرومان عليها هو 194 سنة فقط من سنة 240 إلى سنة 46 ق.م.

وجاء الرومان فجثموا بكلكلهم الثقيل على المغرب، فصار مستعمرة لهم ! فمن هؤلاء الرومان؟ أين وطنهم؟ وما أسباب عظمتهم؟ وما حال المغرب في عهدهم.

------------------------

 

تاريخ المغرب الكبير محمد علي دبوز ج1 ص 297-299

Tags: تأريخ, حضارة, فكر, الجزائر, أخلاق, سياسة, إجتماع