كان العهد التركي عصرا ذهبيا لتاريخ الجزائر، فقد أملت في الدولة الجزائرية أو المملكة الجزائرية أكثر من مائتي معاهدة على فرنسا وبريطانيا وهولندا والبرتغال وحتى على الولايات المتحدة الأمريكية. وقد استنجدت بهم فرنسا خوفا من غارات الإنجليز على سواحلهم الشمالية، ونزلت البحرية الجزائرية في ميناء "براست" الفرنسي ليحاربوا ويردوا غاراتهم. ولعل المؤرخين الذين يتحاملون على الاحتلال التركي للجزائر، متأثرون بالمؤلفين المتشبعين بروح القومية العربية وعدائهم لتركيا في الشرق. وقد أنصف الأستاذ أحمد توفيق المدني، والأستاذ مولود قاسم هذا العهد من تاريخ الجزائر بما يستحقه، ونحن نشاركهم هذا الرأي، وحتى المصادر القليلة في العربية أغلبها من اللغات الأوروبية سيما الفرنسية.
أما الميزابيون فقد كانت لهم في العهد التركي مكانة بارزة ومواقف مشهودة ومواقع مشهورة، نلخصها فيما يلي، والموضوع واسع مترامي الأطراف يحتاج إلى دراسة جامعية، شريطة أن يكون الباحث أو الدارس متضلعا في اللغات الأجنبية، فالمصادر الأجنبية متوفرة في الموضوع أكثر من المصادر العربية.
1 ارتبط الميزابيون بالدولة التركية معاهدة مبرمة سنة 1510م، وذلك لحماية تجارتهم وممتلكاتهم في مختلف أنحاء الجزائر الشمالية، وقوافلهم التجارية التي كانت تجوب مختلف أنحاء الجزائر بل حتى تونس والمغرب، فقد وردت في وثيقة 1853 فقرات تدل على ذلك.
ونستطيع أن نقول بكل فخر إن هذا الارتباط بالدولة التركية بالجزائر يعتبر أول وثيقة سياسية ربطت صحراء الجزائر بالجزائر عن رضى وطواعية قبل وصول الأتراك إلى بسكرة وتقرت، وقبل وصول صالح باي في الأغواط، فقد وصلها في 1775
2 موقفهم البطولي ضد الإسبان في معركة حسين داي سنة 1518، وقد استشهد كثير منهم في هذه المعركة، التي سميت معركة "كدية الصابون"، ولا تزال المقبرة التي دفنوا بها موجودة في حي "ليفيي" على ما قيل "حي المقرية" حاليا قرب حي حسين داي بالعاصمة.
3 موقفهم في نسف دار البارود، وقتل جميع ضباط الحملة الإسبانية، وقد استشهد في هذه الموقعة ثلاثون من الفدائيين، وهي موقعة "برج بوليلة" أو "قصر مولاي حسن" سنة 1541م، وتوجد في مخطط مدينة الجزائر في العهد الاستعماري عبارة Poudriere Mozabite. وقد أهدت لهم الدولة التركية بعد هذه الموقعة كثيرا من الامتيازات في بعض الحرف كالإشراف على المسلخ وعددا من الحمامات لا تزال إلى الآن ملكا للميزابيين. وقعت هذه الموقعة سنة 1541م، كما أحدثت وظيفة أمين الميزابين، يحضر المجالس الاستشارية كعضو كامل العضوية.
4 تلبيتهم لنداء الدولة التركية حين استنجدت بسكان الصحراء، عند نزول الفرنسيين في سيدي فرج سنة 1830، ولم يستحب غيرهم من سكان الصحراء، وبعثوا أربعة آلاف رجل، دافعوا في عاصمة الجزائر، وقد دفن بعضهم في "اسطوالي"، واستشهد معظمهم بالبليدة ومجدوفة، ومقبرتهم معروفة اليوم بالبليدة في طريق الشريعة.
وفي هذه النقطة قد يسال أحد الحاضرين: لماذا بعث الميزابيون أربعة آلاف رجل؟ وهو بالنسبة لعدد السكان في ميزاب يومئذ عدد كبير جدا، ربما كانت مثل معظم القوى الحية من الشباب، ولماذا لم يفعلوا مثل الآخرين فيحتفظوا برجالهم إلى وصول الجيش في الصحراء؟ وهو سؤال وجيه. وبعد التأمل نستطيع أن نجيب بما يلي، وهذا على حسب نظري:
- إنهم كانوا مرتبطين مع الأتراك معاهدة ولاء دفاع، ولم يسبق أن استنجد الأتراك بسكان الصحراء قبل ذلك، وقدروا هذه الاستغاثة وبعثوا أكثر عدد ممكن.
- إنهم كانوا ينطلقون في جهادهم من منطلق إسلامي بحت، يجاهدون لإعلاء كلمة الله، ولا يجاهدون من أجل التراب، فارتباط الإنسان بعقيدته أقوى من ارتباطه بأرضه.
- ربما لم يكونوا يتوقعون أن يمتد الاحتلال الفرنسي إلى الصحراء، فليس فيها ما يغريهم أو يسيل لعابهم، وقد سبق أن دامت دولة الأتراك ثلاثة قرون، ولم تدخل إلى الصحراء إلا في أواخر حكمها.
- ثم أنهم سبق أن هزموا الجيش الإسباني مرتين، فلم لا تكون هذه من تلك. والموقف الخالد الذي سجلوه في العهد التركي دفاعهم عن حاضرة قسنطينة، التي صمدت لجيوش الاحتلال سبع سنوات، وزادوا أياما بعد أن استلمت حامية قسنطينة، وتحيز أحمد باي إلى الأوراس عند أخواله آل بن تانة.
ويقال إنهم اشترطوا بعد إيقاف إطلاق النار أن لا يسلموا سلاحهم، وأن لا يدخل الجيش الفرنسي القسم الذي كانوا يدافعون عنه لنهب أو سلب أو انتهاك للمحرمات، مما جعل عائلات قسنطينة والبيوتات الكبيرة فيها يبعثون بكل نسائهم إلى تلك الأحياء حفاظا على سلامة أعراضهن، ويقال تعليقا على ذلك: إن إحدى عقيلات ابن لفقون هي التي حبست مقبرة الميزابيين بقسنطينة على الميزابيين اعترافا بجميلهم في هذا الميدان، وإن كان هناك من يقولون إن هذه المقبرة حبست على الميزابيين بعد أن طردهم صالح باي من حاضرة قسنطينة، وموقف الولي الصالح بوحجر صاحب زاوية الخروب. فقد التجأوا إلى هذه الزاوية واستقبلهم مقدمها المذكور أحسن استقبال، وطلب منهم أن يقيموا حتى يخاطب صالح باي في الشأن. فركب فرسه، ودخل قسنطينة وجمع أعيانها، واجتمعوا بصالح باي وطلبوا منه إرجاع الميزابين إلى ممتلكاتهم وحركاتهم الاقتصادية، فقبل التراجع عن قراره بعد أن هددوه، وأهدى لهم الشيخ ابن لفقون هذه المقبرة بعد رجوعهم وعودهم لممتلكاتهم.
ولو كنا نملك وثيقة التحبيس هذه لرجحنا بين الروايتين السابقتين، فالتاريخ وحده يكفي للترجيح، لأن جميع من سبقونا متفقون على أن مقبرة قسنطينة التي وقعت فيها خصومة بين الميزابيين وبلدية قسنطينة 1927 و1937 هي وقف من عائلة إبن لفقون للميزابيين الإباضية:
فلسنا نقصد هذه المسامرة الاجترار، بقدر ما نقصد الاعتبار بما بذله آباؤنا على قلة إمكاناتهم، وتقصيرنا مع توفر إمكانياتنا. والمثل الميزابي يقول " وَازْدَجِينْ الوَالْدِينَس إلْعَقْبَتْ أَتْيَالِي"
وأخيرا أرجو من أبنائنا الجامعيين أن يستعدوا للإسهام في ميدان بعث التراث في إطار "جمعية التراث" كما أرجو من شبابنا العامل الجاد أن يبذل التضحيات المادية الموازية لجهود الباحثين والكتاب والمؤلفين والدارسين، فليست التضحية وقفا على العلماء والمثقفين وحدهم، بل واجب شبابنا العامل أن يسهم بأكبر جهد مادي في هذا الميدان، ليوفر للعالم ما يشجعه على المضي في أداء رسالته حتى تلتقي جهود الجميع على بعث هذا التراث الخالد، إذ قال الشاعر:
إذا الحمل الثقيل تعاونته أكف القوم هان على الرقاب
وبهذه المناسبة يطيب لي ونحن في ليلة من ليالي شهور الرحمة أن أترحم على جميع الذين سنذكر عينات من جهادهم وأخص من بينهم الشيخ أبا إسحاق أطفيش والشيخ الباروني والشيخ أبو اليقظان والشيخ صالح بن يحي آل الشيخ. فكل واحد أبلى البلاء الحسن في سبيل إعلاء كلمة الله ورفع سمعة الميزابيين في الميادين العالمية.
وقد تعرضوا لمحن لا تقوى على تحملها إلا النفوس المؤمنة المخلصة التي جعلت غايتها الجنة ورضوان الله. رحمهم الله رحمة واسعة وأسكنهم فردوس الجنان ومتعهم بالفوز والرضوان، ولكل واحد قصة من واجبي أن أرويها لأبناءنا ليأخذوا منها دروسا وعبرا، وستكون لهم حافزا لما يطلبه منهم مستقبلهم المشرف في سبيل الاستمرار على درب أولئك الأبطال المغاوير ولكن بعد نهاية المحاضرة، أو في فرصة أخرى، فقد لا يسمح وقت المحاضرة بكل ذلك.
------------------------------
(01) المصدر: الشيخ القرادي آثاره الفكرية. ص144-176.
المصدر nir-osra.org