وادي مزاب المدينة الدّولة
مقدّمة
لقد تعدّدت الكتابات عن وادي مزاب، وإنّك لتحسّ دائما بإعجاب أصحابها بما تختصّ به هذه المنطقة من امتيازات شتّى [1] لكنّك عبثا تحاول العثور على دراسة شاملة مستوفاة تخضع للمقاييس الّتي ضبطها Copenhagen Polis Center في دراسته عن عديد من مناطق العالم وسمّاها City-State [2] ،وقد تبيّن لعلماء هذا المركز العلمي أنّ وادي مزاب ليس ببعيد أن يخضع لهذه المقاييس فاعتبروها في إحصائهم واحدة من عديد المدن الّتي تخضع لهذه المقاييس [3]، وإنّنا سنسعى في هذه الدّراسة المتواضعة ـ تلبية لرغبة الهيئة الموقّرة المشرفة على حظوظ هذا الصّرح العلميّ الشّامخ ضمن الأكادميّة الملكيّة الدّنماركيّة العريقة في هذا البلد الصّديق ـ إلى الإجابة عن هذا السّؤال: هل يمكن اعتبار وادي مزاب City-State فعلا ؟.
وقبل الإجابة عن هذا التّساؤل الّذي يعطي لهذه الدّراسة طرافتها نرى لزاما علينا أن نضع هذه المنطقة في إطارها المكاني والزّماني، أمّا الإجابة عن الإشكاليّة المطروحة فستقوم على المحاور التّالية:
1 ـ العمران في وادي مزاب.
2 ـ المجتمع المزابي.
3 ـ الحياة الفكريّة في وادي مزاب.
4 ـ الحياة الاقتصاديّة في الوادي.
5 ـ الحياة السّياسيّة في الوادي.
تــمـهـيـد
التّعريف بوادي مزاب عبر المكان والزّمان
بلاد الشّبكة: يطلق هذا الاسم على هضبة صخريّة كلسيّة تقع شمالي صحراء الجزائر وتمتاز عن بقيّة المناطق المجاورة لها بطبيعتها القاسية، فهي صحراء، سمّيت كذلك لأنّها تتخلّلها أودية عديدة لا يتجاوز عمقها مائة متر، تتّجه كلّها من الشّمال الغربيّ نحو الجنوب الشّرقيّ عند بحيرة تكتنفها الرّمال شمال غرب ورقلة.
مساحة بلاد الشّبكة حوالي ثمانية وثلاثين ألف كلم مربّع. يحدّها شمالا وادي بوزبير، وغربا وادي زرقون، وتمتدّ شرقا فتشمل زلفانة والقرارة، وتختلط جنوبا مع بلاد الشّعانبة.مركزها الحالي مدينة غرداية الّتي تبعد عن الجزائر العاصمة ب 490 كم عن طريق الجوّ جنوبا حيث نجدها في تقاطع خطّ العرض الشّمالي32° 30’ وخطّ الطّول الشّرقيّ 3° 45’.
أهمّ الأودية:
وادي زقرير ووادي نسا ووادي مزاب ووادي متليلي.
وادي مزاب يستقبل مياه وادي العذيرة ووادي الأبيض ووادي التوزوز، ويسقي واحة غرداية وواحة مليكة، ثمّ تنسكب فيه من الغرب مياه وادي أزيول الّذي يسقي بدوره جزءا من واحة بونورة، ثمّ يتّجه إلى العطف فزلفانة، وينتهي في سبخة الهيشة على بعد 16 كلم من نقوسة شمال ورقلة.
وبلاد مزاب هي الجزء الأكبر من بلاد الشّبكة وتضمّ اليوم المدن السّبع: غرداية، مليكة، بني يزقن، بونورة، العطف، برّيان والقرارة. أمّا بنو مزاب فلا يسمّون بلادهم في لغتهم البربريّة إلاّ (أغلان) ويطلقون على وادي مزاب اسم (إغزر أو غلان) علما أنّ (إغزر) كلمة مزابيّة معناها وادي ومساحتها حوالي 8000 كلم مربّع بين خطّ العرض 32° و2’ ،33° شمالا وخطّ الطّول 0°4’و2° 30’ شرقا [4].
ولقد ظلّت وادي مزاب واصلية [5] العقيدة فيما نعلم إلى أن وصلها أبو عبد الله محمّد بن بكر الفرسطّائي (440/1049) [6] في مطلع القرن الخامس/ 11 فتحوّل أهلها إلى الإباضيّة واستمرّت على ذلك إلى يومنا هذا، بل هي اليوم أهمّ معاقل الإباضيّة في شمال إفريقيا على الإطلاق. فماذا بعجالة عن الإباضيّة وعن وصولها إلى وادي مزاب.
الإباضيّة مذهب من المذاهب الإسلاميّة وهو من أقدمها نشأة، ذاك أن كتب الفرق والتّاريخ تنسبه إلى الخوارج، لكنّ أهل المذهب جميعا يتبرأون من هذه النّسبة [7]. ذاك أنّهم يعتبرون أنّهم لم يخرجوا عن الإمام عليّ (40/660)، وإنّما بايعوا إماما لهم وهو عبد الله بن وهب الرّاسبيّ (9 صفر 38/ 17 جوان 658)، إذ اعتبروا أنّ عليّا قد تنازل عن بيعته بقبوله تحكيم الحكمين. وقد اتّضح موقفهم خاصّة عندما تجلّت خدعة عمرو بن العاص. وقد كانت لهم مناظرات مع أمير المؤمنين الّذي ناصروه قبل التّحكيم، انتهت بمعركة النّهروان (38/658) الّتي قتل فيها عبد الله بن وهب الرّاسبيّ. فتحوّلت الإمامة إلى عروة ثمّ إلى أبي بلال مرداس بن حدير الّذي كان يصدر رأيه عن الإمام جابر بن زيد (93/711) [8]. وكانت هذه الجماعة تطلق على كيانها إحدى التّسميات التّالية: جماعة المسلمين، أهل الاستقامة، أهل الدّعوة، إلى أن برز في الواجهة السّياسيّة الإمام عبد الله بن إباض (86/705) [9] وانظمّ مع المحكّمة إلى عبد الله بن الزّبير (75/695)، فلمّا تبيّن لهم أنّه عثماني المنزع اعتزلوه وعقدوا لهم اجتماعا في صومعة البصرة (64/683)، فنادى من نادى منهم بالخروج والاستعراض وتكفير المسلمين كفر شرك وعلى رأسهم نافع بن الأزرق (65/685)، فامتنع عبد الله بن إباض وهو اللّسان النّاطق باسم الجماعة الّتي يقودها الإمام جابر بن زيد سرّا عن مثل هذا الموقف ودعا إلى بالقعود والتّريّث، فوصمت جماعته بالقعدة [10]، وسمّيت الإباضيّة نسبة إلى عبد الله بن إباض. وهذا التّاريخ 64/683 يعتبر اللّحظة الحاسمة الّتي نشأت فيها هذه الفرقة سياسيّا وعقديّا ليتجلّى فقهها بعد ذلك شيئا فشيئا على يدي إمامها جابر بن زيد ذاك الّذي استقرّ في البصرة واتّخذها منطلقا للدّعوة في الكتمان رغم مضايقات الدّولة الأمويّة وتسلّط واليها على العراق الحجّاج بن يوسف (95/714).
وما أن توفّي الإمام جابر بن زيد حتّى خلفه تلميذه أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التّميمي بالولاء (145/762) [11] وبإمامته تبلورت أسس المذهب سياسة وعقيدة وفقها فعرفت مسالك الدّين في السّياسة وهي الظّهور والدّفاع والشّراء والكتمان [12]، وتأصّلت في العقيدة أسس تنزيه الباري تعالى وبقيّة أسس هذه العقيدة [13]، وتجلّت الخطوط الرّئيسيّة للفقه وأصوله قائمة على الأحوط في أغلب الاختيارات، مع المرونة عند الاحتياج إلى ذلك [14].
وعلى عهد أبي عبيدة أعلنت إمامة الظّهور في اليمن والمدينة المنوّرة مع ثورة الإمام عبد الله بن يحيى طالب الحقّ (130/748) وقائده أبي حمزة الشّاري (130/748). كما أعلنت إمامة الظّهور بعمان مع الإمام الجلندى بن مسعود (134/751)، واستطاع حملة العلم إلى شمال إفريقيا أيضا وهم أبو الخطّاب عبد الأعلى المعافري (144/762) وعبد الرّحمان بن رستم (160ـ171/776ـ787)، وعاصم السّدراتي (ق2/8) وإسماعيل ابن دارار الغدامسي (ق2/8) وأبو داود القبلي النّفزاوي (ق2/8)، أن يعلنوا إمامة الظّهور سنة 140/758 بطرابلس الّتي انتهت سنة 144/762.
وبعد عشرين سنة تقريبا أعلن الإمام عبد الرّحمان بن رستم إمامة الظّهور بتاهرت بالمغرب الأوسط سنة 160/776 وتنتهي هذه الإمامة بعد أن عمّرت قرنا وثلث قرن سنة 296/787 ليتحوّل معها الإباضيّة في شمال إفريقيا إلى الكتمان، وقد حاولوا بعدها الرّجوع إلى الظّهور فشنّوا ثورتين على الدّولة الشّيعيّة [15] لكنّهم لم يتمكّنوا من ذلك فظلّوا على مسلك الكتمان إلى يومنا هذا حيث انحصر كيانهم في جبل نفوسة وزوارة بليبيا وجزيرة جربة بالبلاد التّونسيّة وبوادي مزاب بالجزائر.
وتذكر المصادر أنّ الأمازيغ اعتنقوا الإسلام عند انتهاء الفتح الإسلاميّ لشمال إفريقيا سنة 84/703، ولمّا ظهرت المذاهب الفقهيّة سبقت إلى وادي مزاب أصول المعتزلة فأخذوا بها، وكانوا يسمّون واصيلة، نسبة إلى واصل بن عطاء (131/748). يقول إبراهيم مطياز: "فالمعتزلة الّذين كانوا في هذا الموطن... كانوا منعزلين عن بني رستم، بل كانوا يحاربون الرّستميّين [16]." وأشهر علمائهم في هذا العهد سليمان بن عبد الجبّار دفين العطف، وكان معتزليّا.
ويجمع المؤرّخون على أنّ تحوّل أهل وادي مزاب إلى المذهب الإباضيّ يرجع سببه إلى الدّعوة الّتي قام بها الدّاعية أبو عبد الله محمّد بن بكر. وتذكر المصادر أنّ لأبي عبد الله راعيا كان يرسله إلى وادي مزاب، كما أنّه بعد رجوعه إلى أريغ سنّ لنفسه سنّة وهي أن يرجع هناك مع طلبته كلّ سنة وذلك في فصل الرّبيع إذ كان يقضي الشّتاء في أريغ [17]. ولم يكن أهل وادي مزاب ليقبلوا رعاية أغنام أبي عبد الله بيسر في باديتهم إذ كانوا يسطون عليها [18] ويذكر إبراهيم مطياز أنّ هذا الانتقال إلى وادي مزاب كان بعد مشورة طويلة بين مشائخ أهل الدّعوة في أريغ: "انعقد مؤتمر بأريغ حوالي 420/ 1030 للنّظر في مسائل تهمّ الوطن منها قضيّة اللاّجئين من فلول رعايا بني رستم... وقد غصّ أريغ بسكّانه وبأولئك اللاّجئين... فانتدب لذلك الشّيخ أبو عبد الله لأداء هذه المهمّة فقام بها على أحسن وجه، واستقرّ الرّأي في النّهاية على النّزوح إلى هذا الوطن ـ وادي مزاب ـ وتعميره بما يصلح سكّانه المعتزلة من العلم والألفة وحسن الجوار... وفي عام 422/1032 وصل بلدة العطف الوسط المعمور أكثر من غيره بالمعتزلة، وكان ذلك بعد موت عالم الوطن سليمان بن عبد الجبّار[19]."
ويلاحظ الشّيخ مطياز أيضا أنّ نضال أبي عبد الله كان طويلا لتحويل هؤلاء المعتزلة إلى الإباضيّة فكلّفه ذلك أن قتلوا ابنه إبراهيم. كما أنّ تحوّلهم هذا لم يكن جماعيّا ولا فوريّا ويذكر بعض الأدلّة على ذلك منها: "وجود مقبرة في بونورة من النّفوسيّين ماتوا في بعض المعارك بين المعتزلة والنّازحين إلى مزاب وذلك أواخر القرن الخامس/ 11.
هكذا عرفنا كيف استقرّ الإباضيّة في وادي مزاب فكيف عمروها ؟
تأليف فرحات بن عليّ الجّعبيري
المراجع:
[1]ـ عليّ يحيى معمّر: الإباضيّة في الجزائر. مكتبة وهبة ط 1 القاهرة. ص 409 ـ 450 . 1399/1979.
G. Marcy : Le Mzab et les bérbéres ibadhites de l’Algérie. Bultein de l’enseignement. Publié au Maroc. N° 169. Juill-Sep 1941. P 210 – 228.
L. d’Armagnac : le Mzab et le pays. Chaamba. Algérie, Baconnier, 1934…
[2]ـ Cf : Mogens Herman Hansen : Poleis and City-States, 600 – 323. A Comprehensive Research Programme.
وقد اعتمد مقال:
E.E.A. Alport : The Mzab. Arabes and Berberes (London 1972) ; 141-152. P 9-17
وقد اطّلعنا على المقال في طبعته الثّانية. وثيقة مرسلة من الكاتب نفسه وهو مدير هذا المركز.
[3]ـ نفس المقال ص 11.
[4]ـ انظر الخريطة رقم 1. ر. يوسف بن بكير الحاج سعيد: تاريخ بني مزاب. دراسة اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة. المطبعة العربيّة. غرداية 1992ص 9. MZAB 2EI .
[5]ـ نسبة إلى واصل بن عطاء (131/748). مؤسّس فرقة المعتزلة. ر. الزركلي: الأعلام. 9/121.
[6]ـ الجّعبيري: نظام العزّابة عند الإباضيّة في جربة، نشر المعهد القوميّ للآثار بتونس. المطبعة العصريّة تونس 1975 ص 29 ـ 57.
[7]ـ Of. Ennami A.K : Studies in ibadism. A thesis submited to the University of Cambridge for the degree of Doctor of Philosophy. Fitzwillam College, Cambridge. May / 1971 polycope P 1 – 53.
عليّ يحيى معمّر: الإباضيّة بين الفرق الإسلاميّة، مطابع سجلّ العرب . ط 1 1396/1976. عدّة فصول في الموضوع.
فرحات الجّعبيري: البعد الحضاري للعقيدة الإباضيّة: ط جامعة السّلطان قابوس، سلطنة عمان 1987 ص 31. 91.
Mikko. Vehkavaara : « The distinctive features of al.labàdia » . studia orientalia. Edited by the finish oriental society. Volume 82. P 129 – 145 . Helsinki 1997.
[8]ـ وقد غفل Alport تماما عن ذكر جابر بن زيد في عرضه التّاريخيّ الّذي مهّد به لبحثه عن مزاب الّذي ذكرناه في تعليق عدد 2. Ennami ; Studies p 54-93
[9]ـ عوض خليفات: نشأة الحركة الإباضيّة. مطابع دار الشّعب عمّان الأردن 1987. 75. 85.
[10]ـ لقب يقصد به التّهجين، فهو عند الخوارج من التّخاذل.
[11]ـ مبارك الرّاشدي: الإمام أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة وفقهه. مطبعة الوفاء. المنصورة. 1413/1993. 135ـ94 Ennami ; Studies
[12]ـ مسالك الدّين عند الإباضيّة أربعة وهي: الظّهور: الإمامة الفعليّة للإباضيّة وهي شورى بينهم. الدّفاع: تعيين إمام في حالة محاربة العدوّ وتنتهي إمامته بانتهاء الحرب. الشّراء: من شروطه أن يجتمع أربعون من المخلصين فيبيعون أنفسهم في سبيل الله، وهدفهم معسكر السّلطان، ولا يقاتلون إلاّ من قاتلهم. الكتمان: تكوين نظام داخليّ للإباضيّة. عمر بن جميع: مقدّمة التّوحيد ط 2/1392/1973 ص69.
[13]ـ الجّعبيري: البعد الحضاري للعقيدة الإباضيّة.
[14]ـ الرّاشدي: أبو عبيدة.
[15]ـ الجّعبيري: نظام: ص 5 ـ 6.
[16]ـ إبراهيم مطياز: تاريخ وادي مزاب خ مكتبة الحاج سعيد. غرداية ص 6. الحاج سعيد: عن تاريخ بني مزاب. ص 16.
[17]ـ الجّعبيري: نظام: 24ـ25.
[18]ـ ن. م: 39.
[19]ـ الحاج سعيد: تاريخ بني مزاب: 24.