النّشاط السّياسي لبني مزاب في شمال إفريقيا للفترة الثالثة من العهد الرّابع
من 1330هـ/1912م إلى 1366هـ/1947م
إنّ الحزب الحر الدّستوري الذي أسّسه الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي وأنصاره في منتصف شهر فيفري 1920، قد كان من مؤسّسيه ومن مؤيّديه الأوّلين شخصيات بارزة من العلماء المزابيين، فكان أبرزهم صالح بن يحي آل الشّيخ اليزقني، كان من الأعضاء الإداريين في الحزب، وعضوا في اللّجنة التّنفيذية، وعضوا في لجنة الدّعاية، وعضوا في لجان المالية، وعضوا في الوفد.
يقول أحمد توفيق المدني: «فإنّه لمّا تأزّمت الحالة بتونس وتقرّر إرسال الوفد، ولم يكن المال الموجود كافيا، سافر الشّيخ صالح إلى مزاب، وجمع منها المال، وصبّ في خزانة الوفد يومئذ أربعين ألف فرنك»[1].
هذه التبرعات وأمثالها من المزابيين، مكّنت الشّيخ الثعالبي من السّفر إلى فرنسا وإلى جنيف، مقر عصبة الأمم، للتّعريف بقضيّة تونس.
في 28 أكتوبر 1920، ألقي القبض بتونس على صالح بن يحي، ومثُل أمَام مجلس الحرب، بتهمة التّآمر ضدّ أمن الدّولة التّونسية، ولم يطلق سراحه إلاّ في جوليت 1921، بمقتضى قانون للعفو العام.
وفي 6 ديسمبر 1920، قامت السّلطات الفرنسية بتفتيش منازل قائد بني يزقن سليمان بن عيسى، وزكري بن سعيد، والحاج عيسى بن محمّد، وإبراهيم ابن سليمان، والحاج بكير بن داود بزملال، للكشف عن وثائق تثبت صلتهم بالحزب الدّستوري. وفي 22 جانفي 1921، تمّ تفتيش منزلي الحاج بكير بن داود زملال، اللذّين يفصل بينهما الشّارع، ويصلهما نفق، أنجزه منذ ستّة أشهر، بموافقة جماعة الضّمان لبلدة بني يزقن.
إلى جانب هذه التّفتيشات، فإنّ السّلطات الفرنسية كانت تتّخذ إجراء وقائيا ضدّ كلّ من له نشاط سياسي مشبوه مناوئ لها، بأن تسّجل اسمه في الدّفتر (ب).
ومن بين من سُجّل فيه، نذكر السّادة زكري بن سعيد والإخوة باحمد وبكير وعمر أبناء داود بزملال من بني يزقن.
ويستفاد من تقرير للمخابرات الفرنسية مؤرّخ يوم 27 مارس 1922، وعدّة تقارير أخرى لرؤساء الملحقات، أنّه ابتداء من سنة 1922، تشكّلت لجنة سياسة في مزاب، برئاسة سليمان بن عيسى قائد بني يزقن، وباحمد بن الحاج حمّو يدّر قاضيها. أرسلت هذه اللّجنة ثلاثة تجّار إلى سوق أهراس، ليكونوا همزة وصل بين تونس ومزاب، ودعاة للحزب الحر الدّستوري التّونسي. كان سليمان باشا الباروني محورا للعلاقات التي تربط تونس بمزاب، تصله التبرّعات التي يجمعها قائد بني يزقن وقاضيها، فيرسلها بدوره إلى صالح بن يحي آل الشّيخ عضو اللّجنة التّنفيذية للحزب المذكور. لقد جمع في هذه السّنة وحدها 226 ألف فرنك.
يقول الدكتور صالح خرفي: «ونقتصر هنا على بعض الشّخصيات، لنبّين انتشار أفكار الحزب الدستوري في مختلف مدن الجزائر...، كان من بين هؤلاء السادة: باعلي الحاج صالح بن محمّد...، وهو ملاك بناحية قالمة وقاطن ببني يزقن، وكان مبعدا من طرف الفرنسيين إلى سجن تعضميت لموقفه المعادي لهم، وزكري بن سعيد، وهو تاجر بمدينة قالمة أيضا، وكان من أعضاء الوفد الجزائري الذي توّجه إلى باريس للاحتجاج ضدّ التجنيد الإجباري سنة 1912، وسيدي عيسى بن الحاج عبد العزيز بن محمّد، التاجر بمدينة الجزائر، وكان وكيلا في قضية التجنيد الإجباري، وترشين عبد الله بن الحاج حمو، التاجر بعنابة، وهو من مراسلي صحف المشرق العربي، وأبو كامل عبد الله بن الحاج صالح، التاجر بالجزائر العاصمة، وهو صديق ومكاتب سليمان الباروني، وكان وكيلا في قضية التّجنيد الإجباري، وكان بصندوقه المالي هو وحده مبلغ مائتي ألف فرنك، جمعها لتمويل المقاومة في ليبيا، واسمه الحقيقي (البليدي)...، وأخوه بليدي محمّد، التاجر بعين الصفراء ووجده بالمغرب الأقصى ومدينة بشار، وبكير ابن الحاج عيسى بن بكير يعقوب، ملاك بمدينة ورقلة، وخوطه الحاج عيسى بن موسى، ملاك في مدينة قصر البخاري القاطن ببني يزقن...، وقرقوز الحاج محمّد بن محمّد بن عيسى، ملاك بمدينة الشلف والمدية والجلفة، القاطن ببني يزقن، وابن بكير، ملاك بالبليدة ووكيل قضية التجنيد الإجباري»[2].
إنّ الأمير خالد، لمّا عزم على القيام بحركته الوطنية عام 1919، وترشيح نفسه للانتخابات، اتّخذ بطانته من المزابيين التجّار بعين مليلة وغيرها.
وبحكم اتّصاله بأولئك التجّار، أُطلِع الشّيخ أبو اليقظان، وهو إذ ذاك بتونس، على القضيّة، فنشر فصولا في الصّحافة التّونسية، تدعو الجزائريين لترشيح الأمير خالد للمجلس الجزائري، وتأييده وتأييد حركته، كما ناصرته أعيان المزابيين ومشايخهم في كثير من نواحي القطر.
وكان من مستشاريه ومؤيّديه مادّيا ومعنويا، السيّد إبراهيم بوجناح التّاجر بالمدية.
وقد تحدّث الشيّخ أبو إسحاق إبراهيم طفيش، العضو البارز في الحزب الحر الدّستوري التّونسي، أنّ الشّيخ الثّعالبي أرسله ثلاث مرّات إلى الأمير خالد في الجزائر، ليعرض عليه اتّحاد حزبه وحزب الدّستور، واتّباع خطّة واحدة في الجهاد. وكانت خطّة الشّيخ الثّعالبي أكثر حكمة، فأبى الأمير خالد إلاّ طريقته الصّارمة، التي عجّلت بالقضاء على جهاده. ظلّت الحكومة الاستعمارية تضايقه بشدّة، فتفرّقت عنه أصحابه، وظلّت إخوانه من المزابيين تلازمه وتشدّ أزره، منهم أحمد بن يحي باعامر الذي انتخب معه في بلدية الجزائر، وشقيقه إدريس باعامر الذي كان يحرّر له المقالات في صحيفة الإقدام التي أنشأها الأمير. ولمّا أصدرت فرنسا أمر إبعاده إلى الإسكندرية عام 1924، تولّى صديقه الحميم الحاج يحي النّعجة اليزقني اتّخاذ الإجراءات اللاّزمة لتسيير مرافقه، وتنقيل عائلته إلى الباخرة للذّهاب إلى فرنسا[3].
حاول محمّد بن بكير التّاجر، مدير جريدة الصدّيق، في سنة 1921، إنشاء أوّل حركة مغاربية تهدف إلى استقلال الجزائر والمغرب وتونس، فكون لذلك (الجمعية الاقتصادية)، لرفع المستوى المادّي للأهالي المغاربية.
إنّ الإخوة خبزي ناضلوا في صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي، وكانوا من بين المناضلين المتأثرين بالقضية الوطنية الجزائرية، ولم يتوقّفوا عن طرحها على قادة الحزب الأوروبيين.
وساند كذلك بنو مزاب وحدة النوّاب أو فيديرالية نواب مسلمي الجزائر التي أنشئت يوم 11 سبتمبر 1927، بزعامة الدّكتور ابن جلّول والدّكتور فرحات عبّاس.
فكان من أبرز العاملين فيها عيسى بن الحاج محمّد الحاج النّاصر ومحمّد ابن بكير الحاج النّاصر في قالمة، وإبراهيم بن حمّو بغباغة في شلغوم العيد (شاطودان سابقا)، وقاسم بن حمّو بغباغة في قسنطينة، الذي كان عضوا إداريا في وحدة النوّاب، وكان ضمن الوفود التي سافرت إلى فرنسا، لتطالب بحقوق الجزائريين، ومحمّد لالوت الذي كان رئيسا لقسم وحدة النوّاب بعمالة وهران، والحاج الزوّاي الذي كان معتمدا للوحدة في العاصمة.
ولمّا وقع انصداع بين وحدة النوّاب وجمعية العلماء، كانت جماعة المزابيين في قسنطينة سببا في رتو الفتق ولمّ الشّعث[4].
انخراط الشاعر مفدي زكرياء في حزب نجمة إفريقيا الشمالية بالجزائر عام 1934، ثمّ انتخب أمينا عاما لها عام 1936. أمّا عيسى بن شريط من غرداية، فكان من جملة الجيل الثاني من الإطارات التي انخرطت في النجم[5].
عند رجوع مصالي الحاج، رئيس النجم، إلى باريس، يوم 27 نوفمبر 1936، قدّم عرضا عن جولته في الجزائر. وقبل أن يختم كلمته، قام أحد الحاضرين يهتف وينشد النشيد الوطني الجزائري (فداء الجزائر روحي ومالي)، الذي ألّفه مفدي زكرياء بمدينة الجزائر في أكتوبر[6].
ومن أبرز رؤساء الحركة الوطنية وأكبرهم نشاطا في حزب الشّعب الجزائري، الذي أسّسه مصالي الحاج في 11 مارس 1937 بباريس، بعد حل نجم شمال إفريقيا يوم 26 جانفي 1937، إبراهيم غرافة من غرداية. فقد كان دكّانه تجاه باب الجامع الكبير بالعاصمة مقرا لاجتماع رؤساء الحزب وأعضائه[7].
لقد كان إبراهيم غرافة ومحمّد مسطول، رفقة زوجة مصالي الحاج وابنهما علي، في استقبال مؤسّس حزب الشعب الجزائري، عند وصوله إلى ميناء الجزائر يوم 20 جوان 1937[8].
وفي 10 جوليت 1937، لمّا علم مصالي أنّ الحزب الشيوعي الجزائري يحضّر نفسه لتنظيم مهرجان، بمناسبة 14 جوليت، باسم الجبهة الشعبية، قرّر المشاركة في هذه المظاهرة، وحرّر منشور- استدعاء، وسلّمه إلى إبراهيم غرافة الذي أسرع به إلى المطبعة العربية لصاحبها الشيخ أبي اليقظان الكائنة بشارع رُفيقْو[9].
ولعلّ من المهم أن نذكر أنّ أوّل مجموعة من الجزائريين ألقي عليهم القبض يوم 27 أوت 1937، من أجل المطالبة بالاستقلال، كان فيها إبراهيم غرافة ومفدي زكرياء، مع مصالي الحاج وحسين كحول وخليفة بن عمار. ومن الجدير بالذّكر أنّ جريدة الأمّة التي كان يصدرها الشّيخ أبو اليقظان، هي الجريدة الوحيدة التي احتجّت في عددها 137، ضدّ اعتقال هذه المجموعة من الوطنيين، رغم وجود جرائد عديدة[10].
أمّا الأوّل غرافة، فقد حكمت عليه محكمة العاصمة يوم 4 نوفمبر 1937 بسنة سجنا، وأمّا الآخرون فبسنتين اثنتين.
ومن جملة المناضلين الذين اعتقلوا بتيارت يوم 8 أفريل 1938، السيد باحمد لَعْسَاكَرْ.
وبعد الحرب العالمية الثّانية، انضمّ فريق من بني مزاب إلى حركة الانتصار للحرّيات الدّيمقراطية، التي خلفت حزب الشّعب في نوفمبر 1946، وكذلك إلى حزب الاتّحاد الدّيمقراطي للبيان الجزائري، الذي كوّنه السيّد فرحات عبّاس في أفريل 1946، بعد انفصاله عن وحدة النوّاب[11].
[1]- حياة كفاح، 158.
[2]- من أعماق الصحراء، 51.
[3]- حمو عيسى النوري: دور المزابيين، الجزء الأوّل، 364.
[4]- نفس المصدر، 403.
[5]- بنيامين سطورا: مصالي الحاج رائد الوطنية الجزائرية، 81.
[6]- نفس المصدر، 144.
[7]- حمو عيسى النوري: دور المزابيين، الجزء الأوّل، 374.
[8]- بنيامين سطورا: مصالي الحاج رائد الوطنية الجزائرية، 165.
[9]- نفس المصدر، 169.
[10]- علي يحي معمر: الإباضية في الجزائر، الجزء الثاني، 597.
[11]- محمّد ناصر: الشيخ القرادي، 192.